«أيها القوم! نحن متنا... فهيّا
نستمع ما يقول فينا الرثاء
قد عجزنا.. حتى شكا العجز منا
وبكينا.. حتى ازدرانا البكاء
وركعنا.. حتى اشمأز ركوع
ورجونا.. حتى استغاث الرجاء»
غازي القصيبي
تلك الأبيات لشاعرنا الكبير -رحمه الله- تعبر عن موقفنا من الغرب، تلك العلاقة التي أشغلت كثيرًا من السياسيين والكتاب والعلماء، بل وخلقت فجوات واسعة بين المفكرين والمثقفين بمختلف مذاهبهم وانتماءاتهم، وتركت آثارًا سيئة واختلافات أدت إلى خلافات شخصية خرجت عن إطار الحوار والمنهجية العلمية إلى ساحة الاتهامات والقطيعة الفكرية، وكل ذلك ألقى بظلاله القاتمة على مستقبل الثقافة العربية التي ظلت تراوح مكانها فلا هي أكملت ما بدأه علماؤها في تراثهم العريق، ولا هي لحقت بركب الحضارة الغربية التي تجاوزتهم بكثير وتركتهم يدورون حول اختلافاتهم دورة كاملة ومستمرة.
سأناقش هنا تلك الكذبة التي عشناها أنا وجيل كامل في عقود من التخبط بين تيارات مختلفة لم نكد نقتنع بفكرة من أحدهم حتى تنقضها أخرى، فكنا أمام مواقف متباينة من الآخر الغربي تشبعنا بأحدها، وتساءلنا عن بعضها، وشككنا في بعضها الآخر، فكان كل منها ينقض ما جاء به الثاني: فالأول كان يقف منبهرًا انبهارًا مطلقًا بالغرب وينادي بالتبعية لتلك الحضارة حدّ الاندماج فيها والذوبان في نظرياتها أيّا كانت من دون تمحيص أو تنقيح بما يتناسب مع ثقافتنا.
وعلى الطرف المقابل يقف النقيض منه، فهو رافض تماما لكل ما وصلت إليه الحضارة الغربية، بدعوى الخوف على القيم الأخلاقية والعقائدية من الآخر الغربي، ومن هنا زرعوا الخوف في نفوس الكثيرين، واتهموا المخالف لرأيهم والمعجب بالحضارة الغربية بالكفر والخروج على القيم والعقيدة، فظهرت لدينا نظريات مختزلة، وليبرالية مشوّهة خلقت فوضى منهجية غير علمية نتج عنها ما يسمى بفوضى المصطلحات؛ فعشنا في تناقض فكري خلق شخصيّات علمية هشّة لا تصمد أمام رياح التغيير، وفقدنا بذلك أدوات اللحاق بالآخر الغربي أو محاولة التفوق عليه.
وبين هذا وذاك يقف الفريق المعتدل صاحب الفكر المستنير، والذي حاول التوفيق بين الثقافة الإسلامية والموروث الثقافي العربي وبين اقتباس العلوم الغربية والنظريات الفكرية وتطبيقها بشكل يرتقي بالفكر والحياة، غير مبال بالأصوات الزاجرة الخائفة من كل تغيير، وغير منبهر بسطوع الحضارة الغربية الذي أعمى المغالين عن تبني رؤية منطقية تسعى لبناء حضارة واعية تعتز بانتمائها العربي الإسلامي، وتنفتح على الآخر لتطوّر وترتقي بحضارتها على أرض صلبة من القيم والتراث والعلمية الصحيحة والهادفة، ولكن هذه الفئة للأسف لم تكن مؤثرة بشكل كبير كسابقتيها حيث لم يسمع صوتها الهادئ الرزين في حلبة الصراع بين تيارين متناقضين جمعوا حولهم أنصارا أضرموا نار الاختلاف حتى اتسعت فجوته، من هنا نتج جيل يعاني من فقدان الهوية، وكتب بقلم يعاني الاستلاب أو الاغتراب الثقافي الذي ساد العقود الماضية ولم يزل، واختلف الكتّاب بين خائف متردد من التصريح لجأ إلى الرمزية حتى أغرق كتابته بالغموض واكتفى بالنخبة لقراءة إبداعه وتأويله، وآخر تحرر من كل القيود فعرّى المجتمع وسقط في الكتابة الفضائحية، وبينهما يتأرجح آخرون يميلون حينًا إلى اليمين وحينًا آخر إلى أقصى الشمال، ولكن للأسف لم يستطع كتابنا الوصول إلى العالمية أو حتى رسم صورة صحيحة لثقافتنا، فالصورة السلبية السائدة عن العرب والمسلمين ازدادت سوءًا ورسخت في أذهانهم صورة العربي المستهتر بقيمة الوقت أو المتحايل الكاذب أو العنيف القاتل، أو المتطرف الرافض للحوار أو الاختلاف، والمتشنج عند سماع الرأي الآخر.
وهذا لا يعني عدم وجود فئة من العرب متمسكة بخلقها وعقيدتها، ومنفتحة على الآخر تتقبل الحوار وتحسن إدارته، ولكنهم قلة غير مؤثرة أمام المد المتطرف الذي شوّه صورة ثقافتنا في عيون الغربي المتطلّع إلى اكتشاف ثقافتنا ومعرفة المزيد عن عالمنا المغلق؛ ولهذا فنحن أمام تحدّ صعب يكمن في العمل على تصحيح تلك النظرة السلبية التي علقت في أذهان الغربيين عن العربي عامة والسعودي خاصة. ولكن قبل ذلك دعوني أسرد لكم تجربة شخصية حدثت لي في الشهور القريبة الماضية لعلكم تشاركوني في الإجابة على الأسئلة التي طرحت علي من زميلات غربيات مختلفات الهويّة، وكان أبرزها يختص بوضع المرأة عندنا -ولا تعليق فنحن المجتمع الوحيد الذي ما زال يعامل كثيرًا من نسائه بثقافة الحريم- ثم جاء السؤال الآخر عن الإرهاب الفكري الرافض لتقبل الآخر الغربي، ولماذا نرفض السياح الغربيين؟ وعن مناهج التعليم عندنا وحقيقة ما ورد عن تطرفها الذي أدى إلى إغلاق المدارس السعودية في بعض الدول الغربية، (ولماذا نقرأ في تعاليم دينكم قيمًا خلقية وإنسانية ثم نرى نقيضها في سلوك الكثيرين من شعبكم - رجالا ونساء- إن جاؤوا سياحة أو طلاب علم؟)
عندما تحاول الإجابة على أيّ من هذه الأسئلة عليك الاستعانة بكل مهارات التفكير حتى تحسن التبرير وتجد لنفسك مخرجًا إن استطعت!
وهنا أتساءل عن دور المثقفين والثقافة في تصحيح هذه الصورة، ماذا فعلنا لتغيير هذه النظرة أو حتى جزء منها؟ كل همنا هو الكتابة للكتابة فقط، والسعي للمشاركة في مؤتمر هنا أو مهرجان هناك، لنعود بعدها ونضيف في سيرتنا الذاتية اسم ذلك البحث أو تلك الورقة، ونتباهى بعددها أمام أقراننا غير مبالين بالصورة التي تركناها في ذهن ذلك الآخر، وللأسف نشارك في زيادة تلك الصورة السلبية سوداوية ورسوخًا، خاصة وهي تصدر من مثقفين ومثقفات يراهم البعض يمثلون النخبة فكيف بعامة الناس! فالتصرفات السلبية من بعض من يمثلون الوطن في المحافل العربية والعالمية لا تجسّد حقيقة الثقافة السعودية خاصة والإسلامية عامة، بل تسيء إليها وتشوّه الصورة العامة لنا جميعا، وهذا لا يعني الحجر على الحرية الشخصية للمثقفين والمثقفات، لكن علينا أن نضع في الحسبان أنّنا تحت الرصد، وأنّ العيون كلها تحكم على العام من خلال الخاص، فكل سلوك نقوم به سلبي أو إيجابي يسجل كسلوك للمثقف السعودي أو المثقفة السعودية، وللأسف قد سمعت من بعض الأخوة العرب عن مشاركات سعودية لمثقفين ومثقفات في محافل دولية أثارت كثيرًا من التساؤلات حول طبيعة المثقف السعودي وسلوكياته، فهؤلاء جزء من الثقافة السعودية تترك لدى الآخر انطباعا خاصًا سلبيًا أو إيجابيّا، من هنا لا يصبح (س) أو (ص) من المثقفين هم المتهمون الوحيدون بل تصبح الثقافة السعودية هي المتهمة، خاصة في ظل تلك الخلفية الغامضة عن مجتمعنا المغلق، الذي بات يشكل إغراءً للكتابة عما يدور بداخله، لتتلقفه دور النشر بالترجمة والتوزيع.
ويبقى السؤال: من خلق تلك الصورة السلبية القاتمة عن ثقافتنا؟ وأيّ تيار منهم يتحمل المسؤولية؟ الإجابة على هذا السؤال تحيلنا إلى بداية المقال فالكذبة التي عاشها الجيل عن الغرب بين متطرف رافض، ومتحرر زائف، خلقت جيلاً هشًّا لا يحمل من ثقافته إلا القشور ولا يمثلها سلوكاً، بل هناك من تمرّد عليها فأساء لأمته ووطنه قبل أن يسيء لنفسه، وللأسف يقف المثقفون موقف العاجز عن التغيير أو المتخلي عن دوره أو المشارك في الإساءة لثقافته وهذا أشد خطرًا على الثقافة من التغريب الذي يخشونه، والعلاج يبدأ بالاعتراف بالمرض، وقبل أن نتهم غيرنا بالتحيز ضدّنا لتشويه صورتنا علينا مراجعة أخطائنا بدءًا بالتعليم وانتهاءً بالثقافة، «يداك أوكتا وفوك نفخ» !!
جدة