يقدم الشعر نفسه، وهو لم ولن يسلم من ناقد احترف أو اعتسف النقد فلم يستغنِ عن تشغيل أدواته ومسلماته، ولو بتكلفٍ أحياناً، أو بتبني وجهة نظر مغايرة لمجرد المعاكسة في بعض الأحيان عندما يغيب التجرد والجدية المسؤولة.
والشعر لا يستغني عن ناقد يقرِّظ أو يعترض بملاحظات قد تغيب عن الشاعر على أن يكون نقده معقولاً منطقياً له وجه حُسن، فلا يأخذ بالمعارضة للمعارضة، في شكل تخالف أدوار وتبادل مواقف، وربما في زمن آخر تتبادل المواقف، والقاضي هنا هو القارئ المؤهل بحصيلة علم وخبرة مع سمو تذوق وشعور. المطلوب من القارئ الفطنة أيضاً إلى أن كل نقد ليس بالضرورة سليماً، كما أنه ليس حتماً سقيماً. والتجرد يبني التطور والارتقاء والإبداع والفن والتجدد والجمال المعبر بالحرف، ليس في الشعر فقط، بل وفي النقد أيضاً، والمهم عدم الانسياق مع العوام في مسلمات مثل: أن كل نقد محق، ولا ينتقد إلا ما يستحق النقد، ولذا كل منتقد هو في حكم الناقص والمدان أو الرديء. وقد يسقط القصيد لمجرد وجود نقد ناقد له وهو حسبما أو كيفما اتفق! مع أنه ما سهل حفظ النظم إلا لجاذبيته وتشويقه.
النظم براعة وإبداع ومؤشر نبوغ ولو بدرجات متفاوتة. والناظم صائغ إذا أتقن أخذ صفة العبقرية والنحات والرسام والمصور.
والنظام خير من النثار والتبعثر.
والانتظام أجمل وأفضل من الفوضى، والسيف أمضى من العصا مع الاعتذار للسيف.
والتنظيم مرقى رائع، ورسم قويم سليم.
والشعر كله نظم، مرتب الإيقاع حلو النغمات، أعني المموسق الموزون منه، سواء نظم العلوم والحقائق مثلاً وهو فن له دوافعه، أو نظم الصور الشعرية، والخيالات المحلِّقة، والمحسنات البديعية، والمشاعر والأحاسيس الوجدانية المرهفة في قوالب ترقى إلى مستوياتها من التعبير النمير الأعذب مذاقاً، وما أجمله من ترياقٍ للنفس التواقة للجمال الآخاذ الفتان، والبلاغة والبيان.
لكن.. إذا ابتلي بجمهورٍ أعشى سهل أن يقول له ناقد أعمى في قالب ذم أشبه بالشتم: هذا نظم وبذا يكفّ بصر الجمهور المنساق معه كدابة الطاحون، فيختلط عليه العسل مع الخل، وتتحول عند المتلقي نغمات العزف والايقاع إلى صوت طاحون نشاز.
أحياناً يكون العيب في الملقي الشاعر، وأحياناً في المتلقي الناقد والقارئ التابع للنقد بانسياب دون استقلالية فاحصة ممحصة ذات سيادة وقيادة وريادة. ومن هؤلاء.. ربما بعض من (شعراء) النثر الذين أحسوا بالحاجة والالتجاء إلى تحميض العنب افتراء، فلجأوا إلى الحصرم يثنون عليه ويمجدونه.
وصف الشعر بالنظم ليكن صفة وخصوصية للمدح لا للقدح، لأن الانتظام خير من البعثرة.
ثم تتفاوت المنازل حسب مستوى المضمون والإتقان، والدفاع عن الشعر المنظوم إنما هو عن عمومه، لكن تفصيلاته ومستوياته قد تتأرجح بين الجودة وما دونها. ولذا تأتي صفة النقد والقدح إذا دعت لها الحال والآلآت، فليس كل شاعر بشاعر في معانيه ومبانيه، مثلما أنه ليس كل ناقد بناقد، هل العزف على وتر الحرف يجد دائماً آذاناً صاغية، مرهفة الإحساس، مموسقة التلقي، غير متبلدة الشعور مثل تلك التي تعيب ملا تعيه ولا تسكر عينها مما تقرأ، ولا أذنها مما تسمع.
إن الشعر الطروب - ولو لم يكن غزلاً يتطلب لطلاوة وحلاوة أجوائه السحرية اللعوب (سِمِّيعة) لتتكامل وتتناغم نبضات (السلطنة) في أحلى وأبهى زينتها ورونقها، ولذة نكهتها وطعمها في الوجدان والأذان.
والمهم الأهم أن يكون للحرف هدف وأي هدف مع توارد المواهب، وإلا صار ثرثرة مهدرة، عليها غبرة، ترهقها قترة، ومع جمال المضمون يأتي جمال القالب الموزون السابح في فضاءات البهجة المؤنسة فيتعانق المعنى والمبنى عذوبة وإشباعاً وإرواء.
ali.alicsa@gmail.com
الرياض