على قبره بين القبور مهابة
كما قبلها كانت على صاحب القبر
مع مطلع العام الهجري الجديد 1431هـ وأفول العام الميلادي المنصرم (2009م)، وبين ثلاث عشرة ليلة من ذاك، وثلاثين ليلة من هذا فقد الوسط الثقافي في المملكة العربية السعودية أحد حملة القلم، وأساتذة الجامعات العربية البارزين، واحداً من أبرز المحققين لكتب التراث اللغوي، وأحد العُمُد في إرساء الدراسات اللغوية الحديثة في جامعة الملك سعود، إنه الأستاذ الدكتور حسن شاذلي فرهود.
لقد ووري الثرى بعد ظهر الأربعاء الثالث عشر من شهر محرم من عام 1431هـ بالرياض، وكان وقع الخبر شديداً على كل من عرفه من صديق، أو زميل دراسة، أو تلميذ. وكان المشهد عند الدفن مؤلماً لمن حضر، والخبر أشد إيلاماً لمن لم يحضر، فهو أحد الرواد في هذه البلاد علماً ومسؤولية، فقسم اللغة العربية بجامعة الملك سعود يشهد له بجهود المؤسسين، ورواد البحث ونهج سبيل الدراسات العليا في الجامعة، وخدمة المكتبة الجامعية ورعايتها منذ ولادتها إلى أن تشكلت وأصبحت إحدى المكتبات الشهيرة بمحتوياتها من مخطوطات ومطبوعات ودوريات.
(أبوعلي) هذه كنيته وليس له (علي)، وحبذا لو رزق به، ولكن قصة الكنية هذه لزمته كما لزمت شيخه (أبا علي الفارسيّ) المتوفى سنة 377هـ -رحمهما الله- فالفارسي لم يتزوج، وليس له ولد، وعلى الرغم من ذلك كان يكنى "أبا علي"، ولكثرة اشتغال حسن شاذلي فرهود بتراث أبي علي الفارسي، حيث سبق الدارسين المحدثين إلى الاتصال بالفارسي، أستاذ ابن جني- وحقق كتابيه الشهيرين (الإيضاح العضدي، والتكملة) وفتح الطريق إلى كتب الفارسي، ونبه الدارسين إلى قيمتها العلمية، وعرف بأماكن وجودها، وما مات حتى رأى كتب شيخه محققة منشورة، فاستحق ثناء الباحثين والمحققين الذين اتصلوا بكتب أبي علي الفارسي، وناله دعاؤهم لقاء ما نبّه عليه من قيمة لتلك الكتب.
كان –رحمه الله- على علمه وحسن أدبه متواضعاً، طيب المعشر، تحبه إذا جلست معه واستمعت إليه، لا يغتاب أحداً، ولا يسمح لأحد "أن يأكل لحم أخيه ميتاً" في مجلسه، بل لا يتيح الفرصة لأحد أن يذمَّ غائباً، حديثه دوماً عن النحو وأهله، وعن كتبه التي صدرت، وعن نشاط طلابه الذين تأدبوا بأدبه، واغترفوا من علمه وفكره وحبب إليهم النحو وعلوم العربية الأخرى.
شربت ودّك لا رنقاً ولا كدراً
حاشا لودّك أن ينتابه الكدر
كم قدت خطوي إلى سلْم ومغفرة
علمتني الصبر في أعقابه الظفر
أبوعلي –رحمه الله- كان مثالاً للأستاذ الجامعي المخلص، فلم أره يغيب عن محاضراته أو يأتي إليها متأخراً، كنا نهابه؛ لشدة ملاحظته وحساسيته المفرطة، فهو لا يحب أن يضيع وقت المحاضرة في حوار خارج الموضوع، أو نقاش لا يأتي بفائدة علمية، وكان لا يتسرع في الإجابة على سؤال لطالب، إلا أن يكون متأكداً من الجواب الشافي الكافي، أما إذا لم يكن كذلك فإنه يستسمح السائل إلى إرجاء الجواب إلى الغد أو إلى اللقاء التالي، وهذا ما حصل معي ومعه وأنا إذ ذاك أحد المستفيدين من محاضراته في المرحلة الجامعية، وقد عرف بين زملائه بالفتوى في اللغة، فلا يستفتى غيره مع وجوده، حتى كأن مهلهلاً عناه حين قال:
وتكلموا في أمر كل عظيمة
لو كنت شاهدهم إذا لم ينبسوا
وكان لا يبخل بعلمه ولا يكتبه كما كان لا يبخل بنصحه ووصيته، فهو في العلم معطاء، وللمعروف مسداء وحسبك به عفة لسانه ويده. وبموته فقدنا كثيراً من المحامد.
ألست ترى موت العُلا والمحامد
وكيف دفنَّا الخلق في قبر واحد
قبل عامين زرته مسلماً وأنقل له أن بعض طلابه ومحبيه في الجامعة-وأنا منهم- عملوا عملاً علمياً مهدى ومنسوباً إليه، وأسموه (الشاذليات) ويرغبون تقديمه إليه بمناسبة مرور خمسين عاماً على إنشاء جامعة الملك سعود، ولربما خمسين عاماً أو أكثر من عطائه هو في حقل العلم والمعرفة، فما هش لذلك، ولا تحمس له، ولا حبذه، بل لقد قال لي يومئذ "لو أنكم بدأتم بغيري من الزملاء الذين خدموا الجامعة أكثر مني لكان ذلك أفضل"، فالرجل لا يرى لنفسه فضلاً، ويرى غيره من زملائه أولى وأجدر بالكتاب التذكاري منه، وأتعبت نفسي وأنا أحاول إقناعه بقبول هدية يهديها إليه طلابه ومحبوه، وتشجيع الجامعة لهم بطباعة ذلك العمل، ولكنه لم يستجب للتكريم الذي كانت الكلية وقسم اللغة العربية سينظمانه له. إنه نكران للذات، وزهد في الإطراء، وتواضع هو من خصائص الفضلاء. رحم الله (أبا علي) فقد أحزن فقده كل من عرفه، وحق لهم أن يذرفوا عليه الدموع، وحسب كل منهم أن يتمثل قول الشاعر:
وإني وإن أظهرت مني جلادة
وصانعت أعدائي عليه لموجع
ولو شئت أن أبكي دماً لبكيته
عليه، ولكن ساحة الصبر أوسع
أو يتمثلوا قول أوس بن حجر:
أيتها النفس أجملي جزعاً
إن الذي تحذرين قد وقعا
رحمك الله أستاذي العزيز، وعزاؤنا فيك أنك حببت إلينا الاشتغال بتراث الأموات لنحيا به، كما كان ذكرهم حيّاً بين أظهرنا على الرغم من ما يفصلنا عنهم من قرون.
الرياض