الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على مَنْ لا نبي بعده، أما بعد:
فلله الأمر كله، وله ما أعطى، وله ما أخذ، وندعو الله أن يعيننا على ألا نقول إلا ما يرضيه؛ فبعد ظهر الثلاثاء 13 من شهر الله المحرم نقلت رسائل الجوال خبر وفاة أخ عزيز، وأستاذ فاضل جليل، إنه الأستاذ الدكتور حسن شاذلي فرهود، ولا نقول إلا {إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ}، واللهم اغفر له وارحمه، وأكرم نزله ووسع مدخله واغسله من خطاياه بالماء والثلج والبرد.
رحمك الله أبا لميس؛ فقد كنتَ فريداً في طبعك، وفريداً في حياتك، تألف وتؤلف، لا يمل سامعه حديثه إن حدث عن التراث والكتب والنوادر؛ فحديثه العذب الزلال، يحدثك عن الإيضاح وطبعه، والتكملة وضبطها، وعن التصحيح ولأوائه، وتجارب الطبع وإشكالاتها، والعروض وكتبه، وعنايته به، وعن محطات مهمة في حياته في التدريس والبحث، وعن بعض رحلاته وما شاهد من مواقف من غير تكلف - أحسبه كذلك - ولا تزيد، رحمه الله تعالى. صور كثيرة وجميلة يضفي عليها العفو مسحة من القبول فتقع من النفس موقعها، وتأخذ من القلب مكاناً، مواقف وطرائف كثيرة هي التي يرويها د. حسن، سمعتها كثيراً، ربما أن عند غيري ما هو أكثر بكثير مما عندي عنه، عفا الله عني وعنه.
شهر د. حسن - رحمه الله تعالى - بتحقيقه كتاب الإيضاح العضدي ونشره، وقد نشره قبل أكثر من أربعين عاماً، وتحديداً كان نشره في عام 1389هـ-1969م، وكتب مقدمته في الرياض في العاشر من شهر رجب عام 1389هـ، وهذه المقدمة على قصرها دلت على شخصيته - رحمه الله تعالى - المتسمة بالتثبت والتحقق لكل ما يقول ويكتب؛ فهو اختار اسم الكتاب فعنونه بالإيضاح العضدي، وعلَّل لهذا بأمرين، الأول: أنه المثبت على النسخة التي اعتمدها أصلاً، وهي من مخطوطات القرن السادس الهجري؛ فهي نسخة متقدمة، والثاني: أن الفارسي ألَّف الكتاب لعضد الدولة، وهو بهذا الاسم يتميز عن كتب كثيرة أُلِّفت باسم الإيضاح.
كما تنبئك هذه المقدمة عن شخصية فذة فريدة في تتبع الكتب والمخطوطات وردِّها إلى أصولها؛ فقد ذكر مؤلفات الفارسي، وذكر من ذكرها من المترجمين، وأشار إلى أماكن وجودها في المكتبات العامة أو في فهارس المخطوطات؛ فتراه يشير إلى أن كتاب الحجة منه نسخة في مكتبة الإسكندرية، وكتاب التذكرة منه نسخة في مكتبة زنجان، ويحيلك على مجلة العرب العدد السادس وفهارس مكتبة برلين، وكتاب الإغفال منه نسخة في دار الكتب المصرية، وأن كتاب جواهر النحو منه نسخة في مكتبة مشهد، وأن كتاب الشعر نشر قطعة منه رودجر، وهكذا يفعل مع باقي كتب الفارسي التي يذكرها، علماً بأن هذا الكلام كان مبكّراً، فقد طبعت فهارس كثيرة بعد ذلك، ولكن البحث والتقصي سمة من سمات الرجل.
ولم يقف عند هذا، بل كان يعقب على ما يراه من وَهْم أو خطأ بأسلوب رفيع، فيقول: (نقض الهاذور: علق الشيخ عبدالخالق عمر على هذا الكتاب بقوله: هذا الكتاب ذكره أبو بكر بن خير في فهرسه، ولم نفهم له موضوعاً إلا أن يراد من الهاذور الهاذر، غير أن هذا الوزن لم يرد في القاموس مع كثرة ما جاء به من الوصف بالهذر)، وأحال على حاشية معجم الأدباء 7-241، ثم علَّق عليه بقوله: (وموضوع نقض الهاذور هو الرد على ابن خالويه في رده كتاب الإغفال). بهذه العبارة القصيرة أجمل د. حسن - رحمه الله تعالى - الرد في كلمات أوضحت الغامض وكشفت عن المراد بأخصر عبارة، وأسهل أسلوب من غير تعريض بعبدالخالق عمر أو تصريح بالتخطئة.
ومن تتبعه النفائس ودرايته بالأصول ما ذكره من نسخ كتاب الحلبيات، فقد ذكر أن للمسائل الحلبية نسختين؛ إحداهما برقم (5 نحو: ش) من آثار الأستاذ الشنقيطي، والأخرى برقم (266 نحو) بالخزانة التيمورية نسخت من نسخة الشنقيطي، وأمُّ هاتين النسختين بالمدينة المنورة.
حقق د. حسن كتاب الإيضاح على خمس نسخ، جمعها من أماكن متعدِّدة، وكان منها نسخة كوبريللي ذات الرقم 1457، وجعلها أصلاً، كتبت في أول القرن السادس الهجري وتاريخ الفراغ من نسخها يوم الأربعاء الرابع عشر من جمادى الآخرة سنة ثمان وعشرين وخمسمائة للهجرة النبوية الشريفة، ووصف النسخ الأخرى بعد ذلك، فعزَّز هذا دقة نظره في منهجه في التحقيق في وقت مبكر، ولما تطبع كثير من كتب مناهج التحقيق.
تصدى للتحقيق ببصر وروية، وأفاد مما جاء مدوَّناً على النسخ، وأشار في حواشيه إلى ما نقله عن النسخ المختلفة، وذكر ما علَّق به على نسخة الأصل أو على نسخة (أ) أو غيرها من النسخ الأخرى، مما سجَّله علماء متقدِّمون منهم أبو منصور موهوب الجواليقي الذي ظهر خطه على نسخة الأصل، فحفظ د. حسن آثارهم وجهودهم وسجلها لهم لتبقى علماً نافعاً بإذن الله تعالى يجري عليهم جميعاً.
هكذا كان - رحمه الله - مع المتقدمين، وهو هو مع المعاصرين؛ فقد كانت علاقته بأستاذي الشيخ الدكتور محمد عبدالخالق عضيمة علاقة حميمة، وكان أستاذي يجله ويقدِّره، ويكنُّ له كل احترام وإجلال، ومن أجل هذا لما أراد الزملاء الأفاضل أن يصنعوا إهداء علميّاً يدونون فيه ما يمكن أن يكون هدية للدكتور حسن كان الاقتراح منه - رحمه الله تعالى - أن أكتب عن شيخي عضيمة، وكان له ما أراد، ثم طلب مني بعد ذلك بمدة أن أكتب عن شيخي الجليل د. أحمد حسن كحيل، وفعلت ذلك تقديراً له، وتحقيقاً لرغبته. رحم الله د. حسن شاذلي فرهود رحمة واسعة، وأسكنه فسيح جنته وغفر له، وجعل في لميس وأختيها خير ذكر عاطر له بعد وفاته، وأحسن عزاءهن وعزاء أحباء د. حسن جميعاً، و{إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ}.
الرياض