عندما كُلّف الدكتور عبد العزيز السبيّل بمسئولية وكالة وزارة الثقافة والاعلام استبشر المثقفون خيراً، فالقوس قد أ ُعطيت لباريها وإدارة الشأن الثقافي المحلي قد تم إسنادها للقادر على حملها وهو المؤهل لها علماً ونشاطاً وخلقاً رفيعاً:
مُذ قُُلِّدَ الأَمرُ قالَ الناسُ كُلُّهُمُ
حَتّّى المُعانِد:ُ أُعطى القَوس باريها
واليوم ها هو السبيّل يرمى قوسه، يرميها ليس بجذب وترها وتسديد السهام، بل بإلقائها وتركها والتخلي عنه ا. وقد يرى بعضهم أن السبيّل حين يقوم بتقديم استقالته فهو يتصرف بشكل حضاري لا يجيده إلا مثقف يترفع عن الالتصاق بالكراسي، لذلك يكتب صالح الشيحي: «طلب السبيّل أن يحال على التقاعد ظاهرة صحية، مهما كانت مبررات القرار». لكن ذلك القرار في نظري ظاهرة ثقافية تجبرنا على التوقف عند المبررات التي لم يفصح عنها السبيل ولا توصّل إلى سبر غورها معالي الوزير الدكتور خوجة الذي أبدى أسفه لرحيل وكيل الوزارة وقال في تصريح له نشر في عكاظ بأنه يشعر بألم كبير لمغادرة السبيّل وقد حاول جهده أن يثنيه عن قراره، إلا أنه كان «مصراً، لظروف خاصة لا أعرفها». ونحن نحترم تصريح السبيّل أنه قدم استقالته لرغبته في التفرغ العلمي، لكن ذلك لا يثنينا نحن أيضاً عن إصرارنا على تأمل هذه الاستقالة ومحاولة استقراء مبررات أخرى لها.
أول ما يتبادر إلى الذهن هو اللوم، لوم الذات الذي ينبع من إحساس بالذنب. هل دفع المثقفون بالسبيّل إلى الاستقالة؟ لا بد أن نصارح أنفسنا ونتذكر كم من مرة وجّهنا نحن إليه اللوم ورفعنا أصابعنا معترضين على هذا وذاك. أول يوم واجه فيه السبيّل غضب المثقفين كان يوم تم تعيين أعضاء مجالس الأندية الأدبية من قبل الوزارة. امتص الغضب بهدوئه المعتاد، لكن أحداً منا لم يتوقف عن لومه وكأن الأمر كان بيده وحده. ثم جاء دور المثقفات في كيل الاتهامات فصببن جام سخطهن على أسماعه بعد تشكيل اللجان النسائية الرديفة وإقصائهن عن مجالس الإدارة والتعيين الرسمي، فامتص الغضب مرة أخرى وحاول تهدئة الأوضاع بدبلوماسيته المعروفة. بعدها راح يلعب دور كيسنجر بين الأعضاء في مجلس كل ناد، فالمثقفون والمثقفات عجزوا عن العمل الجماعي المنظم واشتبكوا في نزاعات شخصية وتنافروا، فراح يجتمع معهم متنقلاً من مدينة إلى مدينة في محاولات دؤوبة لإصلاح ذات البين، وتوالت الاستقالات وارتفعت الأصوات وانفضت لجان النساء، وهو صامد متماسك يتحمل الشكاوى والخصام.
هل أثقل المثقفون كاهل السبيل بعدم الرضا والتبرم؟ الحقيقة أنه لم يبدر عنا الرضا عن أنشطة الوزارة مهما قدمت لنا: الأندية صوتها خافت.. الأنشطة متكررة وعقيمة... الأسماء المشاركة اختيرت بناء على الشللية والواسطة.. الوزارة تتوجه بفعالياتها تجاه النخب وتتجاهل عموم الناس.. اللائحة الجديدة معطلة.. نق.. نق.. نق.. لم يعجبنا العجب، وبعضنا قاطع، وبعضنا ترفع عن الحضور والمشاركة. حتى آخر نشاط بذل فيه السبيّل جهداً منقطع النظير، مؤتمر الأدباء السعوديين الثالث، وجد الرجل نفسه في متاهات التنكر والنقد الجارح: الأوراق العلمية ضعيفة.. مكان المؤتمر بعيد عن الفنادق.. الدعوات لم تشمل هذا وذاك وهذه وتلك.. فلان لم يتم تكريمه والتكريم أهمل النساء.. المؤتمر ليس للأدباء ولكن للأدب.. كنا نخرج كل ظهر وكل مساء من مركز الملك فهد للذهاب إلى فنادقنا لنرتاح ونعود للجلسات اللاحقة، وفي الطريق إلى البوابة كنا نراه مجتمعاً في أحد الأركان مع فريق العمل يخطط وينظم ويكتب ويحضّر... في ليلة الختام كان صوته مبحوحاً وبدا عليه الإعياء وهو يقف لوداع الضيوف على الباب.
لا أحد يشك للحظة أن السبيّل قد أجاد بري قوسه على أسس ومعايير مدروسة، لكنه اليوم وهو يلقيها ويمضي يتركنا أمام البحث عن الأسباب: هل أنهكناه بمطالبنا؟ هل توقعنا منه وهو أول وكيل لوزارة حديثة النشأة أن يحقق كل أحلامنا الخامدة دفعة واحدة؟ شكّل السبيّل الجمعيات المسرحية والتشكيلية والخطية والكاريكاتيرية، لم الشمل وكوّن الكيان ورفع المظلات، لكنه فتح المزيد من أبواب التشكي والتبرم وانعدام الفاعلية. كنا نريد المزيد بعد طول انتظار، كنا نريد أن نندفع بكل عتادنا من فجوة صغيرة. ألم نضعه بذلك في مواجهة تحرّقنا إلى مسرح جاد وسينما راقية ومعارض ضخمة وبرامج متقدمة ورقابة منعدمة؟؟ إتقان العمل الثقافي وتفعيله وضع السبيّل نفسه بين قوسين كلاهما حاد ومتأهب وجاهز للإطباق، قوس المطالبة وقوس المعارضة.
استقالة السبيّل ظاهرة ثقافية تستحق التأمل. ها هو الأمر قد فُوّض إلى من يتقنه ويستطيع إتمامه على أكمل وجه، لكن هل يتحول الرجل المناسب وهو في المكان المناسب إلى سجين الأقواس؟ هنالك حتماً أقواساً سقفية تمنع الصعود وأخرى أرضية تمنع الهبوط. الأمكنة المناسبة لا تكفي لتحقيق معادلة النجاح رغم العلم والدراية والاتقان والفطنة، فتكبيل الباري يسلبه السيطرة على قوسه، وفي النهاية لا بد أن يستسلم خوفاً من تقارب الأقواس التي إن انغلقت تحولت إلى دوائر مفرغة خالية من التهوية: تلك هى ضمة القوسين الخانقة.
في أمثلة كثيرة مشابهة يجري اختيار الشخص المناسب لمهمة ما ويستبشر من حوله خيراً. في مراحل اختياره يقال له بالحرف الواحد: لقد تم اختيارك بناءً على مؤهلاتك وبراعتك وقدرتك على تحمل المهام وإنجازها، فيعتقد أن ابتكاره وحيويته مطلوبة وسيكون لها كل التقدير. لكن ما أن يبدأ العمل حتى تبدأ عملية التحجيم والتقييد، ويفاجأ المناسب أن مهمته لا تخرج عن إطار التنفيذ ولا تبتعد عن حدود الالتزام. ثم يكتشف أن المكان الذي استقتطبه لن يفيد منه، بل وسيسيء إليه ويوصمه بعدم الفاعلية وربما بالفشل.
لا يمكن لأحد أن يعرف تماماً لماذا قدم السبيّل استقالته، لكن ثمة احتياج لتفسير واضح للغموض المحصور بين قوسين! حتماً كان هنالك من يتربص ويشكك في أهمية العمل الثقافي من أصله. في مجتمع يناصب ثقافته العداء، على أية أشواك يمشي مُنشّط تلك الثقافة ومُنسقها؟ هل تناسينا تلك الصعوبات ونحن نعيب النواقص وننعى تطلعاتنا التي لم تتحقق؟ هل نستطيع أن نتصور كمية الضغوط التي وقع باري القوس تحتها ومدى الغضب الذي اضطر لامتصاصه مرة بعد أخرى:
لا يعرف الشوق إلا من يكابده
ولا الصبابة إلا من يعانيها
وسواء أراد السبيّل بذلك الخروج التفرغ لمزيد من العلم أم غير ذلك، فإن المكان الأنسب، المكان الذي يؤتي فيه الجهد ثماره، يبدو بالتأكيد () خارج الأقواس حيث المساحة أوسع لأخذ الأنفاس. والآن وقد شغر منصب وكيل وزارة الثقافة، هل نتطلع إلى إشراقة قوس قزح يبشر بخير؟ الاحتمال ضعيف. في اعتقادي أننا يجب ألا نطيل البحث عن بار جديد لا (يظلم القوس )، لا داعي لانتظار طويل نقضيه باحثين عن قوّاس مناسب نستعين بخبرته وتميزه، فأي شخص تنفيذي سيكون مناسباً. الاتقان والدقة والمعرفة ستحاصرها الأقواس من كل جانب لا محالة، لذا فلنترك القوّاسين المهرة في حالهم ليبدعوا خارج الأقواس، ولنخالف حكمة البيت الشهير:
يابارِيَ القَوْسِ بَرْياً لَيْسَ يُحْسِنُهُ
لا تَظْلِمُ القَوْسَ أَعْطِ القَوْسَ بارِيها
عند تسلم السبيّل مهام الوكالة في وزارة الثقافة لأول مرة فتح قوساً غير مسبوق وأسس صرحاً من لا شيء، ثم تركه عند خروجه مفتوحاً على مصراعيه، لذا فإن كل ما يمكن أن يتطلع إليه المثقفون هو بتواضع تام ألا ينغلق ذلك القوس. على ذلك القادم الداخل إلى مسيرة مسبوقة أن يكمل صعود درجات السلم وألا يصادر الأسس التي وضعها السبيّل ليعيد هو بناءها فيهدمها بعد أن أصبح اكتمالها قاب قوسين أو أدنى.
****
لإبداء الرأي حول هذا المقال، أرسل رسالة قصيرة SMS تبدأ برقم الكاتبة 7712 ثم أرسلها إلى الكود 82244
جده
lamiabaeshen@gmail.com