في الوسط الثقافي نفتقد العابرين بهدوء كأطياف الحلم الجميلة ؛ فنجدهم حين نبحثُ عنهم ؛ دون أن تُصَمُّ آذانُنا بضجيج حولهم يصنعونه هم لا مشروعاتهم.
نتطلع للحراك إذا قاده قادرٌ امتلأ علماً، وأشرق وعياً، وتصدر فسطر، لكننا نملُّ -حدّ الضيق- بمن يُدخلون أنفسهم دوائر الضوء ولو سبب ذلك إعتاماً.
إبراهيم عبد الله مفتاح المتكئ على السبعين (مواليد فرسان 1359هـ) نموذجٌ لتأمل الشاعر الممتدة كلماتٌه بحجم الماء، فيخاطب البحر الفاصل بين الأرض والأرض، ويخطب الأرض الواصلة بين النأي والفيء، الخوف والرجاء، والعزلة والحضور، وعرفنا منه كيف يصبح المنفى وطناً، ومتى تتماهى المسافة بين الهمِّ واليم، كما هي بين الألم والأمل.
(الأفق يعافُ الدجى)، لدى شاعر ابتدأ حياته معلم صبية، تنقل بين بيش وفرسان وجازان، واحتفى بالشعر والتأريخ والآثار، فأصدر بضعة كتب، أغلبها عن جزيرته الأثيرة وناسها، وفيها: (احمرار الصمت) و(عتاب إلى البحر) و(فرسان والناس)، و(فرسان بين الجيولوجيا والتاريخ)، و(فرسان: جزيرة اللؤلؤ والأسماك) وغيرها.
هكذا يجيئ الانتماءُ للإقليم وليس الإقليمية مواطنةً بامتياز؛ (فخيركمُ خيركم لأهله)، (وابدأ بمن تعول)، (والجار ذو القربى) مقدّم على (الجار الجُنب)، ولا عزاءَ لمن يرون الاحتفاء بأصل المنشأ نكوصاً أو انكفاءً، فالموطن الأصغر درب الحب للوطن الأكبر، واقرأوه: بحسِّه العربي:
جئت يا شام كعبة ومصلى
ومقاما وروضة نبوية
جئت من ساحل الخليج شراعا
يتهادى معانقا طبرية
من صبا نجد والحجاز وأبها
واخضرار السواحل الغربية
وربما بدت قصيدته التي وجهها إلى (الرياض) في وداع عام الثقافة معبرة عن شعوره الوطني. وأولها:
تأنّقي ودعيني منك أقترب
إليك يحلو السُّرى والليل والتعب
تأنقي والبسي حرفاً وقافية
وبيت شعر إلى الصحراء ينتسب
تأنقي وأنيخي في دمي قمرا
في ضوئه تورق الأقلام والكتب
تأنقي وهجاً أطفي به ظمئي
فكم حلمت بأن يطفيني اللهب
إبراهيم مفتاح شاعر فحل ؛ فليقل كل الناس إنهم شعراء؛ إذ سيبقى للقصيدة الموزونة بتناظريّتها وتفعيلتها الحق الأوحد في أن ترقص على قيثارة الصوت والصدى، والغيمة والنخلة، والجبل والوادي.
الشاعر بيان لا إعلان.