أواخر القرن الماضي طوى الزمان رحلة حياة الشاعر العربي الكبير محمد مهدي الجواهري أواخر عام 1997م، إلا أن مجد شعره ظل عالياً، فكأن سيرة الشاعر الجواهري جدارية عريقة علقت بالذاكرة بكل زهو وفخر، فلن يقتات عليها النسيان، ولن يطال مجد إبداعه الغياب؛ لأن الذكرى أقوى من أن تنسى.
الشاعر الجواهري تنازعت تجربته الحياتية والشعرية غربتان عنيدتان هما: الرحيل نحو المنافي، والإقامة بالوطن مهمشا. وتوزعت هاتان الغربتان في حياته على ثلاث مدن هي: بغداد وبراغ ودمشق، فالمدائن الثلاث حفرت في ذهن الشاعر - فيما يبدو - هواجس الفقد، وفيض الغربة، فالمنفى يقتات من هشيم أحزانه التي تسمق وتتحول وتتلون، فكلما ذهب الشاعر الجواهري إلى مدينته ولدت ذاكرته مزيداً من الأحزان لأن الغربة والمنافي حالة مرضية لا يمكن الشفاء منها حتى وإن حاول الاستشفاء.
القصيدة في (دمشق) لدى الجواهري وقعها أليم وإن لم تكن ذات صبغة شاكية من الغربة إنما لحزن يخلفه الرحيل عن الوطن الأم (بغداد).. فما بالك إن ارتحل الشاعر الجواهري نحو (براغ) حاملاً معه نكهة الحزان العربي، وهم الغربة، ولواعج الأهل الذين تركهم يعيشون على أمل بسيط بزوال الظلم، وغياب الطغاة.
مدائن الشاعر الجواهري الثلاث بغداد ودمشق وبراغ ظلت تلون شعرية الشاعر، وتحاول ما وسعتها الحيلة أن توجه بوصلته إلى رغبة في تخفيف زخم الحزن، لأنه لم يكن متيقناً في الحقيقة من زواله كاملاً، فلولا الحزن ما وجدنا الشعر الجميل، والبوح العذب.. ذلك الذي يقرأ وجه المدن، ويهيل على المشاهد من كرمه حالة عشق أبدي للذكريات المترامية في ذاكرة الإنسان الذي يهفو إلى السعادة.
فغربتا الشاعر محمد مهدي الجواهري ربما هما سبب شهرته، وذيوع شعره لأنهما اتسمتا بتنازع صورتي ألم الرحيل نحو المنافي، ووجع البقاء في الوطن محطماً مسلوب المشاعر.
ففي شسعة بيداء الترحال، وأحقاف المفاوز البعيدة بين عواصم مدن لا تشبه الوطن، دأب الشاعر الجواهري أن يحاول بناء فأل ما في العودة إلى من يحب:
(أنا عندي من الأسى جبل
يتمشى معي ويتنقل
أنا عندي وإن خبا أمل
جذوة في الفؤاد تشتعل)
فالشاعر الجواهري كون جغرافية شعره على هذا الأساس الوجداني الرحب، فكلما فر في مساحات الأرض وناء عن الوطن ازداد شعوره غربة وحن إلى الوطن، إلا أنه لا يجد سوى الشعر نافذة يطل منها على أحزانه ولواعجه إذ يقول بصيغة التمني، ومحاولة استعادة أمل العودة:
(أحن إلى أرض العراق ويعتلي
فؤادي خفوق مثلما يخفق الآل)
ويقول أيضا واصفاً شوقه المفعم لأن يعود، وهو يدرك أن التمني سلاح العاجزين إذ تأتي الأمنية على هيئة سؤال أليم:
(سهرت وطال شوقي للعراق
وهل يدنو بعيد باشتياق؟!)
فالشاعر الجواهري حمل في جوانحه إحساسا مفعما بأن الشعر سينتصر، وسيحقق أمجاده التي يبحث عنها.. تلك المتمثلة في البحث عن السعادة في وطن يجري حبه في أوردته، ويضوع شوقاً لأن يعانق كل نخلة وشجرة وحجارة فيه، فالوطن لا غنى عنه، لأن الغربة والحزن هي أهم وأخطر ما يواجهك في رحلة البحث عن وطن آخر تفر إليه من منغصاتك الكثيرة، لتأتيك منغصات الغربة، لتكون هماً إضافياً وحزناً لا عجاً يسكن أعماقك فما بالك إن كان المغترب شاعراً كمحمد مهدي الجواهري.
(براغ) عاصمة الاتحاد التشيك وسلفاكيا آن ذاك هي التي حضنت تجربة الشاعر الجواهري، وغمرت وجدانه بشوق عظيم، وحزن عميم سد منافذ التفكير لديه، فما لبث أن عاد الشاعر إلى عاصمة الوطن (بغداد) لكنه وبعد تجارب مريرة ومخاض أليم لم يبرع في إدارة أزمته، ويتسق مع معطيات مهادنته، فما كان منه إلا أن غادر الوطن ليطوف في بلاد كثيرة كالقاهرة، وروما وباريس ولندن حتى عاد بشوق أن يجاور الوطن الأم ليستقر في (دمشق) فيضوع نفح الشعر عطراً خالصاً من ثنايا قصائده فيحوز الجواهري أغلى أمانيه المتمثلة أولها بحظوة الشعر العربي وعاصمة البلاد التي يقول عنها أنها تعشق الشعر وأهله، وثانيها أن يجاور الوطن جغرافياً وهذا أغلى أمانيه فيما يبدو.