هناك في كل دولة حكومة رسمية وشعب، والحكومة تمثل الشعب لكن في الوضع الفلسطيني الأمر مختلف، سلطتان لا تعترف إحداهما بالأخرى، وشعب متعدد التركيب لا يدري أهو هنا أم هناك: (داخل الخط الأخضر، في الضفة والقطاع، يحمل جوازات غير فلسطينية عربية و غير عربية، لاجئون في المخيمات في لبنان، ومقيمون في الدول العربية). وفي ظل وجود حكومتين مختلفتي الاتجاه لا يعلم من منهما يمثل الشعب الفلسطيني، وينطق باسمه، لا يمكن القول بأن حماس هي خيار الشعب الفلسطيني لسبب بسيط هو أنها إذا كانت كذلك فلماذا لم يثر الناس في الضفة على سلطة عباس ويعيدوا السلطة لحماس؟
في ظل هذا المسرح العبثي في فلسطين يأتي الحديث عن (الشعب الفلسطيني) من خلال الحديث عن ممارسات حماس، وتأتي حماس بوصفها معادلا للشعب الفلسطيني أو الحديث عن حماس بوصفها الشعب الفلسطيني نفسه، والحقيقة أن هذا الخلط بينهما غير صحيح، فهو يعني أن الشعب الفلسطيني كله قد ترك أجندة حياته واتجه إلى المقاومة المسلحة وأصبحت المقاومة هي الأجندة الوحيدة التي يتبناها، وينظر إلى أن الشعب الفلسطيني كتلة واحدة داخل الخط الأخضر وخارجه، داخل فلسطين وفي الشتات، والحقيقة أن هذه النظرة تتجاوز كل المتغيرات التاريخية على الأرض وتنظر للموضوع نظرة طوباوية بعيداً عن كل الإجراءات والخطوات التي مرت، وهي نظرة غير منطقية ليس لأنها تتجاوز الحقائق وتعود إلى المربع الأول وتوحي بأن المقصود هو الحرب لأجل الحرب فقط وعدم البحث عن حل، والتمسك في المأزق ولكن لأنها أيضا تختار نقطة بداية محددة للتاريخ المعاصر مبنية على نظر للموضوع على رؤية قديمة لا يوجد من عناصرها شيء على الواقع، وهذا التعاطي مع الظاهرة الواحدة برؤيتين يكشف ضعف القراءة وفسادها.
في حين يكتب الغنوشي عما يدور في غزة وكأنه يصور إحدى ملاحم أخيل في معركة طروادة، فالمعركة بين الأنظمة الظالمة والبطل المخلص الذي سيوقد الثورة في الشعب العربي ويزيل عنهم بقايا الهزيمة، المعادلة نفسها القديمة والمكرورة هنا. يذكر هذه الصورة دون الحديث عن أسباب الهجوم، ونتائجه وما ينبغي أن يكون عليه، ودون تقديم أية تحليل تكشف عن تغير وجهة الصراع سوى الصراع الإيديولوجي القديم.
بينما تأتي كتابة فهمي هويدي أكثر عقلانية ومنطقية، فهي تحاول أن تناقش المسألة بصورة أكثر موضوعية، فهو أولا يفصل بين حماس والشارع الفلسطيني، ويوقف الحديث عن مؤامرة الدول العربية ضد الفلسطينيين، ويسعى للحديث عن خطاب حماس، وأجندة حماس وفعل حماس بوصفها جماعة ذات أجندة مستقلة لا تمثل إلا نفسها وهو تطور جيد في التعامل مع المسألة، يبدأها بالعرض التاريخي لنشأة الحركة وتطورها، ويتحدث عن موقف حماس مما يسمى دول الممانعة ثم يعرض بعض الحجج التي تبرر موقف حماس ذاك دون أن يدينها أو يدين الدول العربية.
لكن هذه المقالات في طرحها لمشكلة غزة والمعالجة المقدمة تقوم على ثلاثة محاور: الفصل بين الشعب والأنظمة العربية، ثم التصور أن هذه العلاقة تقوم على القطيعة، وأن الشعوب تتحين الفرص بالأنظمة، وأخيرا تحديد العدو وطريقة التعامل معه القائمة على الحرب والمواجهة العسكرية.
هذه النظرة للمعضلة الحضارية التي يعيشها العالم العربي التي تختزل المشكل الحضاري بالجانب الاستعماري، وتختزل المقاومة بالمواجهة العسكرية هي النظرة نفسها التي كان جمال الدين الأفغاني ومن تبعه أو عاصره يرددونها، والذي تغير أن هذا الخطاب في القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين كان يوجه للمحتل الأجنبي في حين أنه منذ النصف الثاني من القرن العشرين أصبح يوجه نحو إسرائيل بالدرجة الأولى. هذا التكرار والنمطية في خطاب النهضة (لا أقصد عصر النهضة) وفي أسلوب المواجهة والتعامل مع المحتل، بالرغم من الاختلاف في الوسائل والتطور الكبير في الأداة، ظل مسيطرا في وجدان قطاع كبير من المثقفين. ونظرا لاستمرار الصراع العربي الإسرائيلي، والاحتلال، أو طول مدة الحالة التي يعيشها العرب في العصر الحديث (أكثر من مائتي سنة) واستمرار هذه المقاربة للعلاقة مع العدو تأتي مشروعية السؤال عن مدى نجاعة هذا الأسلوب في التعاطي مع المشكلة التي تمثل القضية الفلسطينية جزءا منها، وقدرته على حل المشكلات التي يعانيها العرب وهو ما يمكن أن يطرح فرضية أن المشكلة التي يعاني منها العرب أكبر من هزيمة في معركة وأكبر من سقوط في ميدان قتال. وحل هذه المشكلة لن يكون انتصارا في معركة أيضاً، وعلى هذا فإن التعاطي مع هذه المشكلة لا ينبغي أن يكون على هذا الأساس وإنما يكون على أساس النظر إلى الحالة الكلية المؤدية للهزيمة التي يعاني منها العرب وجوانبها المختلفة، ثم التفكير في الآليات التي من خلالها يتم طرح سؤال النصر والهزيمة ومعالجته.
قد يبدو هذا الكلام إنشائيا للوهلة الأولى، وقد يكون هو ما تطرحه بالضبط جميع الطروحات الفكرية في العصر الحديث ولكنه لن يكون كذلك حين نبحث في الوسائل التي يمكن أن نبدل فيها مفهوم الصراع ومفهوم المقاومة، ولن يكون كذلك أيضا حين نوازنه بالخطاب الآخر الداعي إلى تهييج الشارع العربي وشحنه مع قوى الحرب والمواجهة العسكرية. فالاتجاهات الفكرية سواء كانت إسلامية أو يسارية كانت تعتمد على فكرة التهييج والتحرر القائم على العنف، على تهييج الشارع العربي على كل شيء دون أن تسهم في تقديم شيء.
ظل الشارع العربي، وبعض الأنظمة العربية تفكر في الحرب، وترفض السلام منذ أن قامت إسرائيل وبعد أن خسر العرب الحرب. هذه الفكرة ثبتت من خلال معادلة معينة لرؤية الربح والخسارة في المواجهة، فإسرائيل دولة ونحن دول، وهم قليل ونحن كثير، أفلا يمكن أن نغلبهم بضربة واحدة؟ لكن السؤال الذي لا يزال بحاجة لأن يطرح من جديد هو إذا كان الواقع بهذه الصورة فلم لم ننتصر، ولماذا ظلت القضية تراوح مكانها كل هذه السنين على حالة بين حالتين ليست في صالحنا؟ ستأخذ الإجابة هنا عدة أشكال كلها تفيد حقيقة واحدة أن القضية ليست بالعدد ولكنها بحال العرب، والسؤال الذي أريد أن أطرحه الآن، وهو مبني على تصورات العرب عن إسرائيل، إذا كانت إسرائيل دولة واحدة صغيرة، لا تملك من التراث والثقافة ولا إمكانيات البقاء في خضم هذا الموج العربي المتشابه في الثقافة والعرق والتاريخ، إذا كانت إسرائيل بهذه الصورة، فهل تستحق منا كل هذا الاهتمام؟ هل تستحق إسرائيل أن نصرف كل اهتمامنا وطاقاتنا لها حتى يعطل العرب مشاريعهم التنموية لأجلها؟ حتى يكون العرب على أهبة الاستعداد للحرب وينشغلوا عن قضيتهم الحضارية، ماذا نخاف من إسرائيل وهي دولة صغيرة قليلة العدد، حتى يجعل العرب علاقاتهم مبنية على مواقف إسرائيل؟ ويجعلون تاريخهم الحديث متأثرا بإسرائيل، وتربط بعض الدول العربية مصالحها بالموقف من إسرائيل. المشكلة أنه منذ حرب 1973 أي ما يقارب 35 سنة والدول العربية لم تقابل إسرائيل، ولم تقم بأي حرب، فهل المقصود هو البقاء على حالة ألا حرب والانتظار الدهر كله؟.
العرب خاضعون لإسرائيل على أكثر من مستوى؛ على مستوى علاقتهم ببعض، وعلى مستوى علاقتهم بالدول الأخرى، بعض الدول العربية تعتبر الموقف من إسرائيل قضية مصيرية تخاصم من أجلها وتبني عليها مستقبلها. إن هذا الموقف لا يعدو أن يكون استجابة لتأثير إسرائيل ووقوعا في دائرة الاستجابة لها إما الاستجابة المباشرة أو على سبيل الاستجابة المعاكسة، هم خاضعون أيضا في سياساتهم الداخلية حيث إن توصيف الأنظمة العربية قائم على الموقف من إسرائيل، فالأنظمة الوطنية الشريفة من خلال موقفها من إسرائيل والأنظمة العميلة أيضا من خلال موقفها من إسرائيل ومن هنا فالعلاقة بين الأنظمة والشعوب قائمة على الموقف من إسرائيل، وبناء عليه فالأنظمة تخشى تأجيج الثورة عن طريق إسرائيل ومن هنا فهي تحاول أن تدافع عن نفسها وتثبت حكمها فتتبع سياسة أمنية معينة نظرا لموقف الشعوب أو موقف الأنظمة من إسرائيل. لقد تحولت إسرائيل في تاريخ العرب الحديث إلى مشكلة قضية تتجاوز كونها تحتل جزءا من البلاد العربية أو الإسلامية لأن تصبح عقدة سياسية واجتماعية وإستراتيجية. أصبحت هي الموجه والحافز الأكبر في كل ما يتصل بالعرب في العصر الحديث، هذا الموقف يختزل العرب وتاريخهم في «الموقف من إسرائيل» والوقوع تحت تأثيرها. يجعل العرب لا يمثلون في العصر الحديث سوى نقيض لإسرائيل، هذه الدول الكثيرة والعدد الكبير، والتاريخ، والحضارة، والثقافة، والدين الخاتم ليسوا سوى نقيض لإسرائيل، يستمد وجوده ومواقفه من عدوه وهو ما يؤدي إلى تعطيل مشروع النهضة العربية وتعطيل كل شيء عربي ما لم يكن له صلة بإسرائيل، إما ضد إسرائيل أو لأنها ضد من يصالح إسرائيل، أو لأن إسرائيل تفعل ذلك بالأدب العبري أو الثقافة العبرية، وتفعل ذلك باليهودية وعليه فنحن نريد أن نفعل مثلهم ولكن بالأدب أو الثقافة العربية أو الدين الإسلامي {اجْعَل لَّنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ}.
ولا يستثنى من ذلك أولئك الذين يمكن أن يسموا بالمعارضة في البلاد العربية، أولئك الذين يتخذون إسرائيل أداة لتهييج الشارع العربي للضغط على الحكومات أو لإقلاقها، هم يستفيدون من إسرائيل ويوظفونها، ويقعون في موقفهم من السلام بالاستجابة المعاكسة لرغبة إسرائيل مما لا يخرجهم من دائرة ردة الفعل.
هذا الحجم الكبير لإسرائيل في وجدان الإنسان العربي في العصر الحديث يستدعي التحرك السريع لوقف هذه الحالة والسعي لإخراج العرب من هذا المأزق الحضاري، ومن هنا فإن إنهاء المأساة الفلسطينية ومشكلة إسرائيل هي ضرورة تاريخية ينبغي أن يتجاوزها العرب لأجل أن يبنوا تاريخهم ومستقبلهم بناء ينبع من رؤيتهم هم ومن مصالحهم، ولأن خيار الحرب لم يوصل إلى هذه النتيجة فإن الخيار الآخر هو المتاح.
بريدة