نعم حياتنا (دوائر، ليس الأمر إلا كذلك) فما تضطرب به حياتنا، وما يختلج في نفوسنا، وما يكون من تفاعلنا إنما هي دوائر متداخلة أو متماسة، ضيقة أو منداحة. وبلغة رشيقة تقترب من لغة الشعر يتناول الدكتور إبراهيم عبدالرحمن التركي طائفة من شؤون الفكر والحياة، لغة لها من الشعر كثافة التعبير وإيجاز العبارة، وجماليات بلاغية تعدت المبنى إلى اكتناز المعنى، يفتتح المقال بعنوان لافت ويختمه بتوقيع له صياغة الحكمة وهيئة الحد الجامع المانع (الأمثال اعتبار - المواقف لا ترتهن - الأيام حبلى - التجديد حياة - السفح أكثر اتساعًا - الوطن لمن يستحقه - القمة ضيقة)، وأما ما بينهما فسبك فكري زويت لصاحبه ثقافة المتقدمين والمتأخرين، ولكنه لم يقع في إسار القديم ولا افتتان الحديث، عرف القديم حتى تشبع به وصدر عنه وتعرف على الحديث واختار منه. ولكنه لم يلق يدًا في قديم أو حديث فجاءت معالجاته محوطة بالفكر المستنير والمذهب الوسطي والرؤية الواضحة لحقائق الأشياء. استطاع التركي أن يقدم فكره دون أن يحتاج أو يحتال بلغة المصطلحات الصعبة أو الاشتقاقات اللغوية الحديثة التي تتوخى بالغرابة اجتذاب المتلقي أو هي قد تدفعه من غير قصد. يذكرني باستعماله اللغة السهلة التي ينظم منها عقود كتابه بصنيع نزار قباني في أشعاره فليس في معجمه ما يحوج إلى شرح أو تفسير، ولكنه ألّف من المعتاد السهل ما ليس سهلا معتادًا، وفي هذا الإطار تأتي كتابات التركي مثالاً حاضرًا على السهل الممتنع. ولو كنت مسؤولاً عن التربية والتعليم لقررت هذا الكتاب للقراءة.
ليس هذا الكتاب منتظمًا لفكرة واحدة ولكنه منظوم بمنهجية واحدة. فهو يبدأ مقالا بعنوان (مزايدات) ص79 ويبدأ الفقرة الأولى باقتباس من ابن خلدون (لغة الأمة الغالبة غالبة ولغة الأمة المغلوبة مغلوبة)، ثم يعلق على هذه الفكرة مؤيدًا ناعيًا على من يزايدون على حماية اللغة وهم يغفلون عن هذا الاقتران الذي أشار إليه ابن خلدون، ويختم فقرته بقوله (وسنظل ندعو بذلك ولو أن السماء لا تمطر ذهبًا ولا فضة)، وهو بهذا يشير إلى قصة عمر مع من ترك طلب العيش متكلا على الدعاء. والتركي يثير العجب والإعجاب باستلهامه مخزونه المعرفي بذكاء. وأما الفقرة الثانية فحديث موجز عن الخوف على لغة الأجيال من تعلم الإنجليزية مبكرًا فيدفع ذلك بأن من يتمكن من لغة يتمكن من أخرى، ويشير في الفقرة الثالثة إلى أمثلة من التفوق المبكر في اللغات، ثم يعرض المشكلة في الفقرة الرابعة فلا يراها في تزاحم اللغات بل في أساليب التدريس، ويشير إلى أن تعليم العربية اهتم بالنظرية وأهمل جانب المهارات اللغوية، وآخر فقرة يشير إلى نجاح تعليم الإنجليزية بتركيزها على تعليم المهارات بما يكفل السلامة اللغوية، ثم يختم بالقفل المعتاد لكل مقالة وهي العبارة التي تكاد تزوي الغرض وتبين عن المقصد وهي في هذا المثال قوله (اللغة فوق المزايدة).
كل فكرة في الكتاب طريفة في موضوعها وعرضها، فلا تكاد تقرأ موضوعًا حتى يشدك غيره، جمع بين عمق المعنى وجمال المبنى، وسلمت لغة الكاتب من ترهل العبارة أو طول الجمل الذي سيطر على لغة المؤلفين اليوم حتى إنك لتحس أنها دوائر ليس إلا.
* * *
لإبداء الرأي حول هذا المقال، أرسل رسالة قصيرة SMS تبدأ برقم الكاتب«7987» ثم أرسلها إلى الكود 82244
الرياض