حارَبوا الدِّين باسم العقل والعِلْم، فلمّا تبيّن لهم أنّ العقل والعِلم قد يقودان بدورهما إلى الدِّين من بابٍ آخر، نَدِموا على ما قدّموا،
فعادوا، وتنادوا، باسم (ما بعد الحداثة)، إلى (اللاعقل المطلق)، و(اللا عِلم الصارم)!
فمَن هؤلاء؟.. وماذا يريدون؟
إنها الحرب على الإنسان؛ لابتزازه من كلّ مكوّناته، ومقوّماته، وإنسانيّته، كيما يعود إلى كهوف الوثنيّة، والبربريّة، والفوضى الأخلاقيّة!
كنتُ في مساق سابق تساءلتُ: لماذا - إنْ كنّا حفيّين بالتراث - لا نوجّه أموالنا إلى إحياء التراث الحضاريّ، عربيًّا وإسلاميًّا؟ لماذا لا نوجّه حبّنا وأموالنا لإقامة متاحف كُبرَى، مثلاً، كما تفعل الدُّوَل الحيّة، على غرار المتحف البريطاني، أو اللوفر، أو مكتبات عُظمى، ونحو تلك من المنشآت الحضاريّة، عِوَض هدر الأموال في سبيل العامّيّات، وتراث انحدارنا الحضاريّ والاجتماعيّ والثقافيّ؟ وها أنا ذا أقف - عبر شبكة الإنترنت، وليس واقعيًّا، للأسف - على مشروع عملاق، نهض به أحد المواطنين في السعوديّة. وهو قصر في مدينة (النماص)، جنوب المملكة، يسمّى قصر الحضارات، في (قرية المِقِر) التراثيّة.. (هكذا ضُبطت الكلمة بالإنجليزيّة في اللوحة المروريّة الإرشاديّة الوحيدة إلى المكان: Meger). وهكذا أصبحنا نستدلّ على نطق الكلمات العربيّة بالإنجليزيّة! وقد تأكّدتُ من الزميل الأستاذ حسن الشهري، عضو مجلس الشورى، فأعلمني أنّ الضبط الإنجليزي للاسم العربي صحيح!
والتعريف الموجود عن القصر - في (شبكة أبو نوّاف) الإنترنتيّة - يشير إلى أنه مبنيٌّ على ارتفاع 2400م عن سطح البحر، على قِمم جبال السَّرَوات، يُطلّ على جبال تِهامة، وتعود ملكيّته إلى العقيد المتقاعد محمّد علي المِقِر. وقد أنشأ ذلك القصر/ المتحف بتكلفة 75 مليون ريال - هكذا وَرَدَ، وفي صحّة الرقم نظرٌ، وإنْ كان المشروع مكلف، بلا ريب.
ويمثّل هذا المشروع عددًا من الآثار الحضاريّة، منذ العهد النبويّ، فالحضارة الأُمويّة، فالعباسيّة، فالأندلسيّة، وصولاً إلى العهد السعوديّ. وشُيّد القصر على الطراز الأندلسيّ، وجُعل ذا قباب سبع، تُمثّل قارّات العالم. وصُمّمتْ نوافذه الثلاث مئة كفَلَك شمسيّ، لتُراعي حركة الشمس داخل القصر. ويحوي ذلك المَعْلم - كما وَرَدَ في المعلومات عنه - خمسين ألف مخطوطة، منها أكثر من ألف مخطوطة للقرآن الكريم، لألف عالِمٍ، في ألف تاريخٍ مختلف. في إشارة إلى أنه يُعَدّ السِّجِلّ الأوّل في التاريخ الإسلاميّ للمخطوطات المكتوبة باليد للقرآن الكريم.
وأقول إنني وقفتُ على هذا المشروع - عبر شبكة الإنترنت، لا واقعيًّا - لأتساءل أين إعلامنا عن مثل هذا؟ وأين مؤسّساتنا للآثار والسياحة؟ وقد سمعتُ عن مَعْلَم آخر في خميس مشيط، ربما كان أكبر. أقول: سمعتُ، ولم أجد عنه اهتمامًا، أو ذكرًا يُذكَر في الإعلام. وهذا أمرٌ غريب أن لا يَعْلَم المواطن عن مثل هذه المشاريع، إلاّ عبر وسائط إنترنتيّة، أو عبر أحاديث المجالس والرُّكبان! ولا ملام على المواطن، إذن، إنْ جاب أرجاء العالم، وزار معالم الآثار والتاريخ فيه، ولم يَزُر معالمها في بلاده، بل لم يعرف بلاده وتاريخها وآثارها حقّ المعرفة!
ما وددتُ قوله: إنه لمِثل هذه المشاريع فليعمل العاملون، وليُنفق الموسرون. فما قام به ذلك المواطن النماصيّ كان حَرِيًّا أن تقوم به مؤسّسات عُليا. وتظلّ حاجتنا الملحّة، والمزمنة، إلى مواكبة إعلاميّة، وثقافيّة، وسياحيّة حيّة، غير منشغلة فقط بنشاطات موسميّة عابرة، تتوخّى التسلية والترويح غالبًا، أو تنحصر في مدينة أو منطقة. بل ما أحوجنا في الواقع إلى (وزارة للثقافة والآثار والسياحة)، تَفْرُغ لهذا المجال الواسع، والمتشعّب، والمهمّ جدًّا! فمَن يصدّق أن دولة كالسعوديّة ليست لها وزارة للثقافة بعد؟! ذلك أنّ ثروة السعوديّة الخالدة، وغير الناضبة، لا تتمثّل في النفط، بل تتمثّل في تاريخها وآثارها وثقافتها، التي أصبحت لها صفة العالميّة، منذ شَعّ نور الإسلام من ثراها على المعمورة. بل هي كذلك قبل ذلك أيضًا، من حيث كونها موطن أنبياء، ومأرز حضارات، ومسرحًا لوشائج إنسانيّة شتّى.
*؛ (أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ، فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ كَانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ، وَأَشَدَّ قُوَّةً، وَآثَاراً فِي الأَرْضِ، فَمَا أَغْنَى عَنْهُم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ). *غافر: 82*؛ (وَعَاداً وَثَمُودَ، وَقَد تَّبَيَّنَ لَكُم مِّن مَّسَاكِنِهِمْ، وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ، فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ). *العنكبوت: 38*. إلى غير هذه من الآيات الحاثّة على تدبّر آثار الأُمم، والنظر فيها، واكتساب الدروس والعِبَر من التاريخ. إنها دعوة إسلاميّة واضحة لاستقراء الآثار، والتعلّم منها، والاعتبار بها، بوصفها شواهد معرفيّة، وآيات تذكيرٍ، واتّعاظٍ، وإيمان. ولكن هذه المعاني قُلبت قلبًا في مفاهيم بعضٍ، تحت شعار الخوف من الشِّرك، وما أدراك ما الشِّرك! والخوف من الشِّركيّات أمر يُحمد لأهله، وهو غيرة على العقل قبل الدِّين. غير أنّ تنقية العقول والقلوب من الشّرك لا تتأتّى بطمس الآثار، أو تدميرها، أو الحيلولة دونها، أو الزُّهد والتزهيد في العناية بها، ولكن تتأتّى ببثّ الوعي، وتغيير خرافيّات أفكارٍ تُعشعش في الرؤوس، لا في الأشياء. أمّا أن تُهمَل الآثار - كما هو الحال عن غار حراء، على سبيل المثال - بحيث يُترك الأثر لإقامة الطقوس، وتشييد المباني، والكتابات والخربشات، العربيّة وغير العربيّة، وبصُورة شوهاء، ويُترك المكان مسرحًا لمَن هبّ ودبّ من المسلمين، ممّن لبعضهم تصوّراتهم العقديّة الزائفة، وخلفيّاتهم الخرافيّة، ثم يقال إنّ الحلّ لتلك الحال يتمثّل في إزالة الأثر، أو منع زيارته، فمن أغرب الأمور، وأعجب الحلول، التي ينطبق عليها المَثَل القائل: (أ غيرةً وجُبنًا؟!)، قال (أبو عبيد بن سلاّم) في كتابه (الأمثال): (قالته امرأةٌ من العرب تُعيّر زوجها، وكان تخلّف عن عدوّه في منزله، فرآها تنظر إلى قتال الناس، فضَرَبها، فأجابته بهذه المقالة). فكذا حالنا والآثار؛ لأنّ إهمالها والتخلّي عن القيام عليها، والتقاعس عن وضعها الوضع الصحيح، اللائق بنا وبها عقديًّا وثقافيًّا، هو جُبْنٌ، لا حُجّة لغيورٍ بعده؛ وهو السبب فيما يتذرّع به المتذرّعون لدعوتهم إلى طمس الآثار أو حظرها؛ لأنهم لا ينظرون إلاّ إلى النتائج مهملين الأسباب.
إنّ الأفكار الفاسدة التي كان يجب أن يصوّب إليها الاهتمام لتغييرها، أو طمسها، كامنة في بعض الآثار غير المادّيّة، من قوليّات، وعادات، وطقوس اجتماعيّة، لا يُلتفتُ إليها عادة، كما يُلتفتُ إلى الحجارة والأبنية، ربما لأنّ ملاحظة هذه الأخيرة أسهل. لا، بل هناك مساعٍ (عالميّة) لإيقاظ الآثار غير المادّيّة، أو إحياء ما اندثر منها! وكما رأينا في مساق سابق حراكًا ظاهرًا لإحياء التراث العامّي في نفوس الأطفال، ومن خلال مسابقات الشِّعر اللهجيّ، بإمكاننا أن نرى ظواهر أخرى جديدة، تشنّ حملاتها على الأطفال خاصّة؛ لإحياء العقل الخُرافي فيهم، باسم التراث الشعبيّ. ومن ذلك مهرجانات تُقام وتُلتمس لها، إلى جانب المسوّغ التراثي - وكلّ تراث لدينا محترم! - مبرّرات تربويّة؛ فيُزعم أنّ هذه العادة أو تلك سوف تنمّي في نفوس الأطفال الانتماء، وروح المحافظة، والاستعداد للتضحية من أجل الآخرين.. وهلمّ جرّا. وكأنّ الوسائل الدينيّة، والتربويّة، والتعليميّة الحديثة قد أعيتنا جميعها عن تربية أطفالنا، فلم يبق من منقذٍ إلاّ الرجوع القهقرى إلى بعض طقوس التخلّف الاجتماعي الذي ورثناه! مع أنّ تلك المعاني المشار إليها إنما هي حُجّة مَن لا حُجّة له للعودة إلى الماضي، بغثّه وسمينه، وإلاّ فإنّ ما ستربّيه مثل تلك العادات قد لا يعدو التعصّب، وخَرَف العقول، ومصادرة الحقائق العلميّة لحساب أفكار بالية تُغرس في الناشئة، كيلا ينعتقوا من أوهام مجتمعٍ، إنْ اغتنَى مالاً افتقر عقلاً.
وفي المساق الآتي مناقشة نموذج من تلك التراثات التي أُحييت في السنوات الأخيرة، وأُنفقتْ في سبيلها ملايين الريالات، كان يمكن أن تُنفق في مكافحة الفقر، أو بناء عقول صالحة للعيش في هذا العصر، لا في كهوف الماضي وبين أشباحه.
* * *
لإبداء الرأي حول هذا المقال، أرسل رسالة قصيرة SMS تبدأ برقم الكاتب«5151» ثم أرسلها إلى الكود 82244
الرياض
aalfaify@yahoo.com
http://alfaify.cjb.net