لبيتُ، بسعادة، الدعوة التي وجهها إليّ اتحاد الطلبة السودانيين للحديث عن أدب الروائيّ الراحل (الطيّب صالح)، مع أنّني لا أميل عادة إلى الحديث عن الأشخاص، بل أفضّل الحديث عن الظواهر، والأشياء، والمنجزات، ثمّ أن تحدّث السودانيين عن (الطيّب صالح) فإنّك تكون كحامل تمر إلى هَجَر!
لكنّ تلبية هذه الدعوة في ظلّ هذا الظرف السياسيّ- الثقافيّ الصعب جاءت رغبة منّي شخصيّاً في الوقوف مع الطلبة العرب في دعم وحدة السودان، وسيادته، وعروبته، والتأكيد على أنّ للثقافيّ دوراً خطيراً في تعزيز هذه الوحدة، إذ لا يمكن استثناؤه من التصدي لهذه الأزمة التي تستهدف الهويّة الثقافيّة بالدرجة الأولى، ولا شكّ في أنّ (الطيّب صالح) روائيّ من طبقة الفحول، وقد التقيته أكثر من مرّة في دمشق، وفي الدوحة، حيث تسامرنا طويلاً، وذلك بصحبة الناقد الكبير رجاء النقّاش، رحمهما الله.
تكمن المفارقة الثقافيّة في كوننا نستعيد نصّ (الطيّب صالح) الذي يعدّ نموذجاًُ لكتابة ما بعد الاستعمار، في هذه الحقبة التاريخيّة ذات الملامح الاستعماريّة الواضحة، إذ يتجلّى في نصّ (موسم الهجرة إلى الشمال) تحديداً وعي الفكرة الاستعماريّة، ووعي الكتابة بوصفها استراتيجيّة تقويضيّة للفكرة الإمبرياليّة عموماً، إذ يرصد النصّ العلاقة بين المستعمِر والمستَعمر بتفاصيلها القائمة على الكتابة المغايرة لكتابة المركز وذلك بالعكوف على الخصوصيّة، وبتعزيز ثنائيّة الذات- الآخر، والتصريح بمأزق الهويّة (عربي، إفريقي، مسلم، أسود).
أسئلة ثلاثة كانت تراودني في ذكرى (الطيّب صالح)، وهي سبب خصوبة نصّه، وسبب عالميّة نصّه، وهل شكّل فعلاً عائقاً أمام انطلاق الرواية السودانيّة، بوصفه النموذج الذي لا يمكن التفوّق عليه؟
حينما يتمتّع النصّ الروائيّ بمصداقيّة عالية نقرظه بقولنا: كأنّ شخوصه حقيقيّة، لكنّ الأمر يختلف مع نصوص (الطيّب)، لأنّك كلّما قابلت سودانيّاً ستشعر أنّه خارج من نصّ (الطيّب صالح)، لا العكس!
يمكن هنا أن نهتك بعض أسرار السرد الروائيّ، وذلك في العلاقة بين المبدع ونصّه، إذ لابدّ لي من القول إنّ النصّ حينما يكون حقيقيّاً، ستجد مبدعه حقيقياً، و تعنيّ (حقيقيّأ) أنّه غير مزيّف، وبعيد عن الادّعاء. ولعلّ نصّ (الطيّب صالح) يقوّض نظريّة موت المؤلّف، ويقف في وجه النزوع إلى عزل النصّ عن مبدعه وثقافته، ويدخل في التوجّه إلى تعبير النصّ الأدبيّ عن الخصوصيّة الثقافيّة للبنية الاجتماعيّة التي أنتجت كلاًّ من المبدع والنصّ.
لم يتعمّد (الطيّب صالح) الذهاب إلى التراث، أو إلى التاريخ، أو إلى الدين، أو إلى الإديولوجيا، أو إلى الناس، هو ببساطة يتركّب من ذلك كلّه، أمّا فطنته الروائيّة فقد مكّنته من مزج مواد الفنّ والحياة بمعايير صحيحة: الواقع، والرؤيا، والذات، والآخر، والحلم، والثقافة، والماضي، والتراث، والاقتصاد، والاجتماع، والدين، والمدينة، والريف، فأتى نصّه حقيقيّأً، مثل شخصه تماماً، فهو سوداني، عربي، مسلم، شرقي، واع لثقافته، تعثر في نصّه على العالم، لكنّ هذا العالم لا يبدأ إلاّ من السودان، بل من شمال السودان، من قريته (كرمكول).
تتربّع في نصّه تحت السعف على النيل، تماماً كما تتناول وجبتك في مطاعم (الريتز)، وتستنشق رائحة الندّ والبخور المحترق من غير أن تفارق أنفك لسعات الرياح المثلجة في ليل لندن، بل من غير أن تنأى عن روائح الجهات الأربع: الجنوب الذي يحنّ إلى الشمال كما يتردّد في (الموسم)، والشرق الذي يقف في مواجهة الغرب.
ما زلت أرى، على الرغم من الفارق الزمني، في وجوه كل الذين يقدمون من أوربة وأمريكا إلى بلادهم النائية، ملامح من (مصطفي سعيد عثمان) بطل (الموسم)، أمّا (الزين) بطل (عرس الزين) فلعلّني أعرف أكثر من شخص يشبهه، في حيّنا وفي الأحياء المجاورة، كما أعرف في (الرقّة) مدينتي نساء أشبهن (بنت مجذوب). أمّا علاقتي الشخصيّة بنصّ (الطيّب صالح) فأستطيع تقرّيها في الجذر، وفي الإحساس القويّ بالذات، ويمكن تعميمها على كلّ عربيّ ومسلم واع لفكرة الهويّة الثقافيّة، وتلك العلاقة تلخّصها عبارات بسيطة، لكنّها عميقة وحقيقيّة أيضاً، إذ يقول الراوي في (موسم الهجرة):
(نحن بمقاييس العالم الصناعيّ الأوربيّ فلاحون فقراء، ولكنّني حين أعانق جدّي أحسّ بالغنى، كأنّني نغمة من دقّات قلب الكون نفسه. إنّه ليس شجرة سنديان شامخة وارفة الفروع في أرض منّت عليها الطبيعة بالماء والخصب، ولكنّه كشجيرات السيال في صحارى السودان، سميكة اللحى حادّة الأشواك، تقهر الموت لأنّها لا تسرف في الحياة!).
* * *
لإبداء الرأي حول هذا المقال، أرسل رسالة قصيرة SMS تبدأ برقم الكاتبة«7875» ثم أرسلها إلى الكود 82244
حلب