بعد قراءتي لثنائيات الدكتور إبراهيم التركي رأيت أن من المنطق قبل نشر الحلقة الثانية من تحليل كتاب (القبيلة والقبائلية) أن أوازن بين ثنائيات التركي وثنائيات الغذامي وخاصة أن تحليل خطاب الكتاب يعتمد على هذه الاستراتيجية، أو تستطيع أن تقول هي جدوّلة بيانية لبناء الثنائية ونوعها وأشكالها عند كليهما.
وسأركز من خلال هذا الموضوع على ثنائيات التركي وأوجز الحديث عن ثنائيات الغذامي لأن الحلقات القادمة ستكون مخصصة لتلك الثنائيات.
أول ما يلفت انتباه القارئ هو عنوان نص الدكتور التركي (الحوار وجدلية الثنائيات) وهو عنوان يحمل دلالة قضويّة عبر ثلاث وحدات وثلاث أبنية لثلاث علاقات هذا التوازن الشكلي يتمثل بصورة واضحة خلال نصه الذي يسير وفق آلية ذلك التوازن عبر بناء دائري بياني يحقق فكرة التوازن الذي يحملها العنوان.
وعلى مستوى الدلالة سنجد أن العنوان يمثل استراتيجية الثنائية عبر تشكيل ممثل»الحوار والجدل وهما تشكلان يعتمدان على ثنائيتي (المجهول والمعلوم) و(التشابه والاختلاف)، واستخلاصهما يعتمد على آلية الانزياح بين وحدتي (الحوار والجدليّة) فالحوار تنظيم إجرائي والجدليّة أيضا تنظيم إجرائي وكلا التنظيمين يدوران في محيط المجهول والمعلوم في حين أن الجدل هو نظام تنظيري، وباعتبارهما تنظيمين إجرائيين فالقصدية متوفرة وفق تعاقد مسبق بين طرفي التنظيم، كما أن تعدد أطراف التنظيمين لا يتبع تعدد أفكار محتوى التنظيم فكل تنظيم يحتوي على فكرتين متبادلتين يكونان «ثنائية المجهول والمعلوم و التشابه والاختلاف، وكلا الحوار والجدلية بنيتان عقليتان، والفرق بينهما هو ناتجهما من حيث النفع أو الضرر وبالتالي فالنتيجة تمثل ثنائية تدعم ثنائية المعطى.
فثنائية الحوار والجدليّة ثنائية (تشابه) من حيث إن كليهما تنظيم إجرائي يعمل وفق الآليات والخصائص ذاتها، و(اختلاف) من حيث قيمة ونوع ومفهوم المعطى الذي يحمله كل تنظيم ونتيجته وأثره.
ونلاحظ أن التركي يُغيّب معطى الثنائية في عنوانه لمصلحة تكوينها (التنظيم الإجرائي) ولا نغفل هنا طبيعة المقام وطبيعة الفئة المستهدفة، فكلما قصد الحقل الخطابي فائدة عملية انحصر في نصوصية رمزية وهو حصار يهدد مستويات الحقل الخطابي بالتحول نحو الميدان، ووفق آلية المقامية وخاصية الاستهداف كان من الطبيعي عند التركي أن يقدم تكوين الثنائية ويؤخر معطاها المعرفي.
في حين أن الغذاميّ يُحضّر المعطى في عنوانه بل ويجعله الدلالة الرئيسة، نظرا لاستغياب المقامية والمرسل إليه المخصوص.
وهكذا نرى أن استغياب معطى الثنائية يرتبط بحضور المقامية والمرسل إليه المخصوص، واستحضاره يرتبط بغياب المقامية والمرسل إليه المخصوص، وخاصيتا الاستغياب والاستحضار يرتبطان بغاية كليهما من استثمار الثنائية والسعه المعرفية للحقل الخطابي وأهدافه، أو الميدان الخطابي وأهدافه والتشكيل التحليلي الذي يتبع تلك الخاصية، فكلما ركزّت القصدية على الميداني الخطابي كما هو الحال عند التركي مال التشكيل البنائي للثنائية نحو التكثيف، وذلك بدوره يحوّل الثنائية إلى معطى اجتماعي، لكن ما يشكل الثنائيات عند الغذامي المعطى المعرفي.
يتعامل التركي مع الثنائية وفق جذرها الأصلي باعتبارها فكرة فلسفية وهو بذلك يحوّلها إلى جدلية نسقيّة ولذلك لا نندهش عندما يتعامل معها وفق التنظيم الإجرائي الذي هو ممثل قوي للنسقية، في حين أن الدكتور الغذامي يتعامل مع فكرة الثنائية وفق وظيفتها الإجرائية وهو بذلك يحوّلها إلى نظام نسقيّ، و ناتج التحول عند كليهما لاشك أنه مرتبط بمستويات التشكيل البنائي للثنائية الذي يؤثر بدوره على آليات التحليل البنائي وحاصلها من المستويات والتطبيقات، ووفق اختلاف قاعدة تشكيل ثيمة الثنائية وآليات بنائها والجدول الإحصائي للمستويات يختلف تعريف الثنائية و مستوى دلالة الوظيفة بين أشكال الثنائية عند كليهما، كما أن كليهما يتعاملان مع وظيفة الثنائية كقاعدة بيانات نسقية تؤثر على التنظيمات الإجرائية للمجتمع في النهاية.
وهناك مسألة مهمة سأشير إليها هنا لأنها ظاهرة في نص التركي لكني سأتوسع فيها عند الحديث عن ثنائيات الغذامي وهي مسألة (الاحتيال الخطابي لإنتاج الثنائية).
فالغذامي يمارس احتيالا دلاليّا لتحويل الشكل الناتج من الثنائية الرئيسة إلى ثنائية أخرى وبالتالي فإن الثنائيات المتعددة عند الغذامي هي في أصلها مجرد أشكال إجرائية للثنائية الأصلية، في حين أن التركي يكتفي بممارسة هذا الاحتيال الدلالي لتحويل الأشكال والآليات الإجرائية إلى ثنائيات من خلال العنوان، فالاحتيال الخطابي هنا مؤقت لأن التركي لا يهدف إلى تحليل الأنظمة النسقية في تكوينها ودلالاتها كما فعل الغذامي، بل يهدف إلى مناقشة إشكاليات الحوار والجدلية لكن اشتراكهما في هذه اللعبة لا يعني أنهما يتساويان طريقة تنفيذ اللعبة وحاصلها.
يحتوي نص التركي على ثنائيتين»ثنائية المجهول والمعلوم، وثنائية التشابه والاختلاف خلاف عنوان نصه، والعديد من الأشكال والآليات التي يحوّلها إلى ثنائيات مشتقة (صوريّة)، وهو ما يعني أن لعبة اشتقاق الثنائيات في نص التركي بدأت من العنوان.
يستفتح التركي نصه بثنائيتين من خلال الآية القرآنية؛ ثنائية رمزية صورية (السماء والأرض) وثنائية المجهول والمعلوم مكونة المحيط الذي يدور فيها الحوار والجدلية، والثنائية الثانية تتمثل عبر شكلين (العلم رمز المجهول والفعل رمز المعلوم، والغيب رمز المجهول والحساب رمز المعلوم) و يمكن اعتبار الثنائية الرمزية هي شكل ثالث يمثل ثنائية المعلوم والمجهول وفق الدلالة الرمزية التي تمثلها وبناء على ذلك فنحن أمام ثلاثة أشكال لثنائية (المعلوم والمجهول)، وهي ثنائية عادة توظّف لتنظيمي (الحوار والجدل) باعتبار أن كل طرف من طرفي التنظيمين يمثل للآخر مجهولا مقابل تمثيله لنفسه معلوما، وقضية كل تنظيم تقوم بذات الرمزية الدلالية للمجهول والمعلوم.
وهو ما يجعلنا نزعم أن ثنائية المجهول و المعلوم في نص التركي هي التي أسست بقية ثنائيات نصه المشتقة من حيث الدلالة القضويّة في كليتها، مثل ثنائية (الحقيقة والمعنى) والممثلة عبر شكلي الثبات والتغيير الذي يتم تصورهما وفق طقوس الانزياح التي تٌمارس عبر مثال ضمني يظهر لنا من تارة إلى أخرى في أجزاء متفرقة من النص وهو يعني أن الثنائيات في النص توّظف بعضها بعضهم عكس ما سنجده عند الغذامي وهو أمر طبعي نظرا للقصدية العملية التي يتحرك من خلالها نص التركي.
والمعنى لكونه يحتوي على قدرة الإنتاج المستمرة لدلالات مختلفة يصبح معادلا للمجهول واكتسابه خاصية التغيير وفقا لمِ يملك من قدرة يصبح أيضا معادلا للتغيير وهي خاصية تجعله مخالفا للثبات، والحقيقة تمثل ثباتا معرفيا لمعلوم يقوده كل طرف من طرفي التنظيم الإجرائي للحوار والجدلية، فالحقيقة تمثل يقينا لمن يتبنى فرضها وبذلك تصبح الحقيقة معادلا للمعلوم.
وهذه التعليلية بدورها تٌنتج ثنائية (التشابه والاختلاف) فكل مؤيدي المعلوم يمثلون متشابها وكل مؤيدي المجهول يمثلون متشابها، والمؤيد الأول يمثل المختلف للمؤيد الثاني وتتكرر فكرة الاختلاف للمؤيد الثاني، وهكذا نجد أنفسنا أمام ثنائية مزدوجة كل معلوم هو متشابه وكل مجهول هو مختلف وهذان هما الطرفان اللذان يمثلان الحوار والجدلية.
والحوار والجدلية هي ثنائية مشتقة بدورها لكونها في الأساس آلية من آليات ثنائية المجهول والمعلوم وشكلا من أشكال ثنائية التشابه والاختلاف، والتركي بذلك يدخلنا إلى لعبة اشتقاق الثنائيات، خلاف الغذامي الذي يمارس لعبة توليد الثنائيات، والفرق بينهما أن الثنائية المشتقة تظل تابعة للجذر الأصلي لكن الثنائية المتولدة تستقل عن الجذر، وقيمة التوليد هنا هي إنتاج وظيفة مختلفة للثنائية المتولدة عن وظيفة الثنائية الأم، في حين أن الثنائية المشتقة تظل محتفظة بوظيفة ثنائية الجذر.
ويمثل التركي لثنائية التشابه والاختلاف عبر أشكال عدة منها (اللون والأنا والآخر) واللون والأنا والآخر في ذاتهما ليستا ثنائيتي تشابه واختلاف، كما أنهما ليستا من أشكال تلك الثنائية؛ بل هما آليتان من آليات تنفيذ ثنائية التشابه والاختلاف، لكن التركي يحولهما إلى ثنائيتين اشتقاقيتين من ثنائية التشابه والاختلاف.
أما الاتجاه فهو ليس ثنائية بل هو شكل من أشكال ثنائية التشابه والاختلاف، فالإسلامي والعلماني واللبرالي جميعهم أشكال تعبر عن ثنائية التشابه والاختلاف مثلما الأنا والآخر من آليات تنفيذ التشابه والاختلاف، لكن التركي يعود ليمارس لعبة اشتقاق الثنائيات من خلال ذلك الشكل ليصوغ ثنائية جديدة يمثلها التيار.
ثم يعود التركي إلى ثنائيته الرئيسة ثنائية (المجهول والمعلوم)» ليمارس لعبة اشتقاق الثنائيات من خلال الأشكال المتعددة لثنائية المجهول والمعلوم التي يحوّلها إلى ثنائيات عبر الاشتقاق وهي (الساكن والمتحرك) و(التغير والتغيير) و(الوهم والعقل) ولو تأملنا تلك الثنائيات المشتقة لوجدنا أن الساكن والتغير والوهم ترميزات للمجهول وأن (المتحرك والتغيير والعقل) ترميزات للمعلوم، وبذا سنلاحظ أننا ندور من خلال تلك الترميزات في دائرة دلالات لثنائية كليّة هي المجهول والمعلوم الثنائية التي تتحكم في يقيننا أو شكّنا نحو الأشياء وبالتالي رفضنا أو قبولنا لتلك الأشياء والرفض والقبول لا يتم إلا عبر شبكة إجرائية ينفّذها التفاعل النساني عبر آليتي الحوار والجدلية، وبذا فالتركي يقصي الحقل الخطابي مقابل تفعيل الميدان الخطابي خلاف الغذامي الذي استطاع أن يوازن من خلال الثنائيات بين وظيفتي حقله الخطابي و ميدانه الخطابي.
وهكذا يصبح نص (الحوار وجدلية الثنائيات) يحتوي على ثنائيتين رئيسيتين وهما (ثنائية المجهول والمعلوم، وثنائية التشابه والاختلاف). وسبع ثنائيات مشتقة وهي (وثنائية اللون، ثنائية الأنا والآخر، وثنائية الاتجاه، ثنائية التغير والتغيير ثنائية الساكن والمتحرك، ثنائية الوهم والعقل) و(ثنائية الحقيقة والمعنى).
وثلاث الثنائيات الأولى مشتقة من جذر ثنائية (التشابه والاختلاف) وثلاث الثنائيات الباقية مشتقة من جذر ثنائية (المجهول والمعلوم)، أما الثنائية السابعة (المعنى والحقيقة) فهي مشتقة من ثنائيتي التشابه والاختلاف والمجهول والمعلوم.
* * *
توزيع الثنائيات في نص (الحوار وجدلية الثنائيات)
الثنائيتان الأساسيتان لنص الكلمة
الثنائيات المشتقة وجذرها
ثنائية اللون.
ثنائية الأنا والآخر.
ثنائية الاتجاه.
ثنائية المجهول والمعلوم
ثنائية التشابه والاختلاف
مشتقة من ثنائية (التشابه والاختلاف)
ثنائية التغير والتغيير.
ثنائية الساكن والمتحرك.
ثنائية العقل والوهم.
مشتقة من ثنائية
(المجهول والمعلوم)
ثنائية المعنى والحقيقة.
مشتقة من ثنائية
(المجهول والمعلوم / التشابه والختلاف)
* * *
لإبداء الرأي حول هذا المقال، أرسل رسالة قصيرة SMS تبدأ برقم الكاتبة«7333» ثم أرسلها إلى الكود 82244
جدة