هاتفني أحدهم، وهو يعلم تماماً مذهبي في التعامل مع الهاتف، أو الجوال من حيث لا أعطي لأي منهما أذناً صاغية، ولا قلباً واعياً، ولا أدنى اهتمام، أو مبالاة!!
وذلك بالذات هو ما يغضب مني أصدقائي، وغير أصدقائي حيث يعدون ذلك من قبلي صلفاً، أو استكباراً، أو ربما استعلاءً.. لا معنى، ولا مبرر له!!
وذلك كله على الرغم من علم الكثير منهم علماً أكيداً أنني أبعد ما أكون عن أي شيء من ذلك، أو نحوه قط!!
وتلك - لا شك - مصادرة شديدة الحمق لخصوصيتي أو لممارسة حريتي الشخصية بينما أكون في عمق منزلي على حال، أو آخر.. ربما لا يسمح لي، أو هو لا يجعلني قابلاً للاستمتاع بشدو البلابل، أو سجع الحمام.. فكيف بقدرتي على سماع أنكر الأصوات النشاز، الباعثة حتماً على التململ، وصد النفس أكثر مما قد تكون عليه حالتي أصلاً سواء من ناحية نفسية، أو مزاجية، أو مجرد ذلك مما لا جدال في استحقاقي له بعيداً عن أي نعيق، أو نهيق!!
ولكن صادفت مهاتفة صاحبنا (أحدهم) بعض استعداد عندي لاحتمال النكد الهاتفي.. فهتفت بصاحبنا: أهلاً!!
فقال: مش معقول!!
قلت: وما المعقول، أو غير المعقول في مجرد رد على رنين هاتف!!
قال: غير المعقول هو ردك هذه المرة على الهاتف على غير عادتك.. بيد أنني أطمئنك بعدم الإزعاج.. كل ما أريده هو أن أسألك سؤالاً بسيطاً، وبريئاً أيضاً!!
قلت: أهلاً وسهلاً، وما هو.. يا صاح؟!
قال: من أين أتيت بمصطلح (الأدب الذاتي) الذي أصبحت تردده مؤخراً حتى في عناوين موضوعات كتاباتك؟!
قلت له: عجباً يا صاحبي.. هل مجرد كونك صاحب شهادة صفراء يبيح لك أن تجعل أي كلام ضمن إطار المصطلحات وغرائب المعاجم، أو ما هو من قبيل ذلك، أو من نحوه!!
أنا أيضاً على الرغم من كوني لا أحمل شهادة صفراء، ولا حمراء إلا أنني - للعجب والغرابة - صاحب صلة قديمة وطيدة بهذا النوع من الكتب المحنّطة.
والأكثر عجباً، وغرابة أن مكتبتي المتواضعة.. تضم الكثير من معاجم المصطلحات.. وقد اطلعت على ما هو أكثر مما في مكتبتي.. اطلعت حتى على معاجم المصطلحات، والتعريفات الفلسفية على الرغم من بغضي الشديد لأي لت، أو عجن باسم (الفلسفة) وما اضطر.. أو ارغم أنفي على قراءة شيء منه وفقاً لضرورة معرفية قصوى.. أجده جالباً للقهر، قاصماً للظهر، وهذه سجعة مهمة لا يجوز الاعتراض عليها!!
فأما استعمال عبارة (الأدب الذاتي) فليست هي مصطلحاً على حد علمي بل مجرد كلام، أو هذر من عندياتي من حيث لم يدر في خلدي قط أنه يمكن أن يكون مصطلحاً، ولا حتى شبه ذلك!!
اللهم إلا أنني أعرف تبعاً لصلتي القديمة الوطيدة ب(معاجم المصطلحات) أن هناك بعض مصطلحات تدور بالفعل حول (الذات) حتى على صعيد المصطلحات الفلسفية على جلالة قدرها، وهي مثل (ذات) أو (ذاتانية) وما يتبع مثل ذلك من تفسيرات ما أنزل الله بها من سلطان!!
ولطالما قرأت عن (الذات) الكثير من الغثاء سواء كان أدبياً، أو فلسفياً، أو حتى مجرد تنطع.. فلم أخرج من كل ذلك بشيء يذكر فيشكر اللهم فيما عدا أنني قرأت، وعجبت - منذ زمن - قصيدة رائعة عنوانها (النفس) وهي ل(ابن سينا) مطلعها:
هبطت إليك من الحل الأرفع
ورقاء ذات تعزز وتمنع
ولا شك أن عنوانها يختلف اختلافاً بسيطاً عن معنى (الذات) حيث هو (النفس) وهذا من ذاك دون شك.. بل ومما يؤيد ذلك تقريباً هو مضمون القصيدة نفسها على الرغم من كون مطلعها يدل بوضوح على قصد (النفس) بروعة التحديد، ودقة القصد!!
ولكن هناك بعض تشابه كبير بين معنى (النفس) ومعنى (الذات) وهذا التأكيد من قبلي على مسألة التشابه هو من قبيل صلفي، أو جرأتي على اجتراح المعاني!!
ولكن أرجو أن يُغفر لي ذلك إكراماً لإعجابي بالقصيدة، والتغني بها في كثيرٍ من الأحيان على الرغم من غموضها.. كما أرجو أن يُغفر لي بالنسبة ل(الذات) كون تفسير المصطلح يذهب به إلى ما هو - ربما - أقرب إلى معنى (النفس) وسواء هذا، أو ذاك.. هناك (فائدة) حتماً على حد تعبير الفقهاء!!
وهنا لابد من عودة إلى ذكر صاحبنا الذي هاتفني أو أقلق أنسي مع (ذاتي) فهو شاب ودود، ومحب، ومن ناحية أخرى يعد مثقفا لكونه - على الأقل - يحمل تلك الورقة الصفراء.. ثم هو أيضاً لا يخلو من روح (دعابة)، وإن كان لا يملك أدواتها، ولا حسن التعامل معها!!
ولكم أن تذكروا ما أسلفنا القول عنه في مقدمة هذا الموضوع حيث كان اتصاله الهاتفي بي في وقت غير مناسب، وهو يعلم جيداً أن معظم أوقاتي غير مناسبة، وبخاصة بالنسبة للمهاتفات الفارغة، الجوفاء، حيث أشغلني، وأشغل نفسه بمهاتفتي لا لشيء.. بل - كما ذكر هو نفسه - لمجرد سؤال بسيط عما إذا كانت عبارة (الأدب الذاتي) مصطلحاً معجمياً.. أم لا؟!
وتعلمون - أكرمكم الله - أن سؤالا من هذا النوع لابد أن يبيح لأبي حنيفة (مد رجيلته ولا يبالي)!!
أما أنا فلا أجرؤ بالطبع على ما يجرؤ عليه من هو في مقام، أو مكانة الإمام (أبو حنيفة) فضلاً عن أن (رجيلته) كانت تؤلمه.. فإذا كان بين طلابه فحسب فإنه يمدها دون حرج!!
أما إذا قدم عليه أي قادم.. فإنه يعيدها - أي رجيلته - إلى وضعها الطبيعي أثناء الجلوس على الرغم من ألمه الشديد إكراماً لذلك القادم الذي لم يكن يعرفه، ولا يعرف مدى جهله حتى سأله ذلك السؤال الشهير البالغ الجهالة، والسخف فما كان منه غير أن أشاح عنه قائلاً: (إذن يمد أبو حنيفة رجيلته.. ولا يبالي)!!
وإذن فليس أمامي تجاه سخف السؤال غير أن ألعن (الهاتف) ومن فكر فيه، واخترعه، ومن صنعه، وقام بتسويقه على مستوى العالم!!
وأشتم أيضاً كل من يستعمله دون مراعاة، أو احترام لآداب استعماله، أو استخدامه، وما أكثر سوء السلوك في تعاملنا مع الأدوات الحضارية الحديثة التي تقتضي أدبيات بذاتها في التعامل معها!!
وانظروا إلى (السيارة) مثلاً وما يلحق بها من أنظمة مرعبة.. فضلاً عن الأدبيات غير المكتوبة.. بل المتعارف عليه في التعامل مع أداة شديدة الخطورة على قائدها، وعلى الغير أيضاً في حالة أدنى سوء استعمال!!
بل إننا نعلم جميعاً أن قد جدّ على حياتنا في مختلف المجالات تقريباً الكثير جداً من الوسائل الحضارية المتقدمة التي وصلت إلينا دون أن تصل معها طرق وسائل التعامل معها!!
وفي ذلك، ونحوه الكثير جداً من المفارقات العجيبة حقاً.. مفارقات تؤكد بما لا يقبل أدنى شك وجود فجوة كبيرة بين أدبيات مجتمعنا وما طرأ عليه من كثيرٍ من الوسائل الحياتية تحتاج بالضرورة إلى حياة ثقافية جديدة متواكبة مع ما وصلنا إليه من أسباب الحضارة.
فاكس: 02/6208571
جدة