الثقافية - حازم السند
الأدب، والمجتمع... أيهما يصنع الآخر؟ إن سؤالاً كهذا تتلقفه كثير من الأصوات التي تزعم أنها تجيب عليه بسهولة.. لكنها لا تكاد تعطي جواباً وافياً حوله...
المرأة الشاعرة، ظاهرة أدبية اجتماعية, كانت تدب في المجتمع خفية، وفي خجل, قديماً وحديثاً, حتى تغيرت الحال في السنوات الأخيرة التي باتت فيها المرأة تمثل الأنموذج الأدبي وليس شيئاً طارئاً, وذلك ناتج عن ظهور الحركات النسوية, والتقارب الكبير بين الثقافات, وإشاعة ثقافة حقوق الإنسان...!
المرأة العربية, في شريط التاريخ منذ الجاهلية وإلى اليوم, كيف هي؟ وما هي نظرتها لبنات جنسها، وكيف تنظر إلى الرجل؟
من يصنع الآخر, الرجل أم المرأة, وهل ستتمكن المرأة من خلع سلطة الرجل, وهل كانت هناك محاولات في العصور القديمة.. وكيف يستشرف المستقبل...؟
نسأل الدكتور عمر السيف... أستاذ الأدب بجامعة الملك سعود, عن حزمة من القضايا الثقافية النسوية...!
الصورة لم تتغير كثيراً
كيف صوَّرت المرأة الرجل، وكيف صوّر الرجل المرأة في حضارات ما قبل الإسلام، وفي الشعر الجاهلي تحديداً؟
- ترى الدراسات الأنثربولوجيّة، انطلاقاً من دراساتها للنقوش والرسومات التي خلّفها الإنسان البدائي، أنّ الصورة المثاليّة للمرأة في المجتمعات البدائيّة؛ ركّزت على تصوير الأعضاء الأنثويّة تصويراً يركّز على خصوبتها في المقام الأوّل، فمثَلت صورة الإلهة الأنثى في حضارات الرافدين -على سبيل المثال- بشكل يضخِّم الأجزاء الأنثويّة الدالّة على الخصب، ويصوِّر هذه الإلهة سمينة. وهذه الصورة هي التي نجدها في الشعر الجاهلي مع تغييرات وتحويرات بسيطة. فالأنثى المرغوبة عند الإنسان البدائي -بشكل عام- هي الأنثى الخصبة التي يمكن أن تنجب. وكان من البدهيّ أن تقابل هذه الصورة صورة تركّز على مظاهر الفحولة عند الرجل، وهذا ما حدث بشكل ضمني عندما شُبِّه الرجل كثيراً بالقمر، بيد أنّ المرأة ركّزت على صورة الرجل الناجح اجتماعياً، على اعتبار أنّ قدرات الرجل الاجتماعيّة، وقدرته على جلب الرزق؛ كفيلة بأن تجعل هذه الرجل مرغوباً للأنثى. وعند فحص الشعر النسوي الجاهليّ؛ لا نستبين ملامح جسديّة واضحة للرجل باستثناء صفات عامّة تركّز على ضمور جسد الرجل وهَيَفه، ولكنّ معظم الصور الجسديّة تُحيل بشكل أو بآخر إلى صفات نفسيّة -كالشجاعة والكرم- فالخنساء -على سبيل المثال- عندما تقول عن شقيقها (فما في وجهه نُدَب) فهي لا تقصد أنّه يملك بشرة ناعمة صافية، ولكنّها تقصد أنّ قوّته وشجاعته ومنَعَتَه حالت دون أن يلحق به أدنى أذى، ولو كان بخمش الوجه، ولا سيّما أنّ الوجه قيمة تحمل دلالات معنويّة عميقة.
كل بحسب وظيفته
تقصد أنّ الرجل يركِّز على الجمال في المرأة والمرأة ليست كذلك؟
- تبيّن بعض الدراسات النفسيّة أنّ الرجال يفضِّلون عادة النساء الجذابات من الناحية الجسديّة والجميلات، وهذا أمر معروف. وتفضِّل المرأة في الرجل الصفات الأكثر اجتماعيّة. وهذه الاختلافات في التفضيل تعود إلى اختلاف مساهمة النساء والرجال في عمليّة الإنجاب، فالخصوبة والقدرة على الإنجاب عند المرأة ترتبط بشكل وثيق بالسنّ والحالة الصحيّة، ويشهد على ذلك بعض مكوِّنات المظهر الخارجي كالجلد الناعم والمرونة الجسديّة والوجه والشعر وهيئة الجسد... إلخ، أمّا مساهمة الرجل فلا تتوقّف على الإمكانات الجسديّة بقدر ما تتوقّف على الإمكانات الاجتماعيّة التي يستطيع تقديمها لزوجته وأطفاله..كلّ هذه الأسباب أدّت إلى انصراف المرأة نسبياً عن تصوير جسد الرجل، في مقابل اهتمام الشعر الذكوري بتصوير أعضاء جسد المرأة.
الأشقر أزرق العينين
وهل استمرت هذه الصورة في العصور اللاحقة؟
- استمرّت هذه الصورة في المجتمعات التي حافظت على التقاليد البدويّة والقبليّة، ولكنّ الحواضر الإسلاميّة والانفتاح الحضاري أدّى إلى أن تتغيّر هذه الصورة وتظهر صورة بشريّة مسلوبة القداسة ذات صفات جسديّة جماليّة واضحة، حيث ظلّ الرجل طويلاً جسيماً، وبلا ملامح. وإن وُجدت ملامح أو صفات ثانويّة؛ فالمرأة تجعلها صفة ذمّ عندما تكون فاركاً، وصفات مدح عندما تكون عاشقة، مما يعني أنّ الصورة المشتهاة ظلَّت متفاوتة بتفاوت النساء، وبتفاوت الحالة النفسيّة للمرأة. وفي أحد مظاهر تطوّرها أصبحت هذه الصورة أكثر نعومة، فالرجل الأسمر الذي كان جعداً مُجلاً أصبح عند بعضهنّ، ولا سيّما الإماء، الأشقر أزرق العينين أحمر الوجه. بل وصل الأمر وقت الترف إلى أن تغزّلت المرأة بالرجل الناعم المُدلّل! ثمّ استأنثت الصورة تماماً عندما تغزّلت المرأة بالمرأة في خطاب لم يكن معروفاً في الثقافة العربيّة.
النساء شواعر لكن دون ديوان
وهل كان إنتاج المرأة الشعري يوازي إنتاج الرجل؟
- الشعر الذي أنتجته المرأة اقتحم الكثير من المعوقات، فكان من البدهيّ أن يكون قليلاً، ومع هذه القلّة يقول أبو نواس: (ما قلت الشعر حتى رويت لستين امرأة من العرب منهنّ الخنساء وليلى)، ومرحلة الرواية للشاعر المبتدئ تقتضي ألا يروي إلا لمن اتّصف شعره بالجودة والإتقان. فوجود ستين شاعرة متقنة -غير ما عداهن- أمر ليس هيناً. كما أنّ المرزبانيّ ألّف كتاب (أشعار النساء) وقصره على أشعار الحرائر فقط دون الجواري، وبلغ عدد صفحات المخطوطة ستمائة ورقة. ويذكر أحد الباحثين أنّه وُجِد في الأندلس ستون ألف شاعرة! قد يكون في هذا العدد مبالغة، ولكنّ هذه الأشعار الضخمة لم يصل منها إلا ما يوازي ديواناً واحداً من دواوين الفحول، ولهذا التغييب أسباب كثيرة.
المرأة تصنع الشاعر
هل كان للمرأة دور واضح في إبداع الشعر أو نقده؟
- نعم، كان للمرأة دور مهمّ في توجيه الشعر وتسيير دفّته إلى ما تريد, ويتبدّى ذلك من خلال قصّة تحكيم أمّ جندب بين امرئ القيس وعلقمة الفحل، وما تنطوي عليه هذه القصّة من دلالة ثقافيّة مهمّة على التواطؤ (إن صحت العبارة) على تقسيم الأدوار الثقافيّة بين الرجل والمرأة ليغدو الرجل مبدعاً والمرأة ناقدة، وهذا التقسيم أدّى إلى ظهور المقدّمة النسيبيّة التي تُعدّ استعراضاً طاووسياً لذكوريّة الرجل وفحولته وقدرته على النفاذ إلى مواطن الجمال الأنثوي والتغزّل بها. بل حتّى بنية الفخر، وهي البنية الثالثة من بنى القصيدة العربيّة الجاهليّة، لم تكن إلا استكمالاً لإشادة الشاعر بنفسه إلى إشادته بأسرته وقبيلته وحضورهما الاجتماعيّ، وهي إشادة استكماليّة لغرضه الاستعراضي. وفي العصر الأمويّ نطق الصوت الناقد، فروت كتب الأدب الكثير من الآراء النقديّة الفاحصة لسكينة بنت الحسين وعائشة بنت طلحة وعزّةِ كثيِّر وغيرهنّ، وطالبن بترقيق الشعر والتلطّف مع الأنثى فأنتج ذلك الغزل العذري الذي لا يركِّز على العلاقة الجسديّة التي يرغبها الرجل، وإنّما على العلاقة العاطفيّة التي تنشدها الأنثى.
لم تمتحن المرأة في هذا بعد
هل هناك عائق فطري يخفت صوت المرأة المبدع؛ لأننا نلحظ أن المرأة منذ العصور الجاهلية إلى عهد قريب وهي لا تبلغ شأناً في الأدب؟
- أولاً إن كنت تقصد أنّ المرأة أقلّ ذكاءً وإبداعاً من الرجل؛ فثمّة دراسات تبيِّن أنّ هناك ارتباطًا إيجابياً بين الذكاء والسمات الأنثويّة؛ أي أنّ الذكور الأكثر ذكاء أكثر أنوثة والأقلّ ذكاء أقلّ أنوثة، هذا رأي علميّ أنقله ولا أتبناه. وثمّة رأي يبيّن أنّ شخصية المبدع تجمع بين الحساسيّة وهي قيمة أنثويّة، والاستقلال وهي قيمة ذكريّة، مما يعني أنّ الأنوثة لم تُمتحن امتحاناً حقيقياً في مجال الإبداع في ظروف متناسبة مع ظروف الرجل. إضافة إلى أنّ ثمة تقاسماً للأدوار, فللرجل مجاله، وللمرأة مجال آخر وتوجه يخالف الرجل, ومن أهم مسببات ذلك المجتمعُ الذي لم يقبل المرأة شاعرة؛ لأنّ اشتراطات الشعر في ذلك العصر كانت غير مناسبة لطبيعة المرأة, ولأسباب كثيرة قد يضيق المجال هنا عن ذكرها. ولكن في هذا العصر، عصر الرواية، أعتقد أنّ المرأة أقدر على السرد من الرجل، على الرغم من أنّ المحاذير الثقافيّة والاجتماعيّة عليها أشدّ، ولكنّها من جانب آخر أكثر استعداداً في المجال السردي، نظراً لأنّ السرد ارتبط بالأنثى منذ أمد بعيد، ومن ثمّ غدا رصيدها الثقافيّ في هذا المجال أغنى. كما أنّ المرأة لديها قدرة على رؤية التفاصيل وملاحظتها، وهي قدرة يتأخّر فيها الرجل عن المرأة، وهذه القدرة هي التي تعطي للرواية جمالها، ولا سيّما أنّ الرواية العربيّة وُلدت في أحضان الواقعيّة، ولم تستطع الخروج عن إطارها أو النجاح خارجها بشكل واضح. ولذلك، المرأة أقدر على القصّ والاستغراق في التفاصيل. ولا أعني بالتفاصيل الحشو القصصي، ولكنْ أعني التفاصيل التي تُسهم في البناء الروائي، فنجيب محفوظ -على سبيل المثال- نجح في كتابة الرواية الواقعيّة التي تجعلك تشمّ روائح الحارة القاهريّة وتسمع أصواتها، وترى تغضّنات وجه الشخصيّة بلغة بسيطة ومصوِّرة.. فأعتقد أنّ رواية نجيب محفوظ يمكن أن تكتبها المرأة.
لأنها كانت تحاكي الشعر الذكوري
إذن لماذا لم تتوجه المرأة إلى إنشاء شعر (اجتماعي)؟
- المرأة عجزت عن أن توجد لها موضوعات نسوية تتحدث عنها، وهي تهمة تُوجَّه للمرأة دون أن تكون هي السبب الوحيد فيها، فلا نجد في شعر المرأة موضوعات نسويّة، وإنّما هي تتبنّى ذائقة الرجل وتسير في ركبه. من أسباب ذلك، أنّ المرأة غُيّبت عن مجال الإبداع لأسباب يطول الحديث عنها، ثم لم يُروَ من أشعارها إلا الأقل، وفي كلّ هذه الأشعار كانت تتجنّب كلّ ما قد يمسّ ذاتها، فكانت تحاكي الشعر الذكوري، إلا ما كان من أشعار الترقيص التي تُقال للطفل في المهد، أو مقطوعات قليلة لم تستطع أن تكون نهجاً شعرياً.
التحول الأكبر لدى الإماء
ماذا عن المرأة الأَمَة وعلاقتها بالرجل؟
- الأمَة كانت أوفر حظاً من الحرّة، فقد كانت الحرّة مُغيَّبة في أحيان غير قليلة، وربّما غالى بعضهم في مهرها. وفي المقابل كانت الأمة تستطيع إبراز جمالها، وتنال حظّها من تعلّم الدين والشعر والأدب، فهي مثقّفة وأنيقة، مما جعلها تجتذب الرجال.، فأدّى ذلك كلّه إلى استبدال كثير من الرجال الإماء بالحرائر، ونُظمت أشعار وكُتبت رسائل في تفضيل الأمَة، وفي قدراتهنّ العالية في التعامل مع الرجل.
وهذه الحظوة -بطبيعة الحال- لم تنلها كلّ الإماء، ولكن نالتها بعض الإماء في القصور وعند بعض الرجال. وقد أصبحت دور النخاسة آنذاك تدرِّب الأمَة وتعلّمها لتكون مرغوبة ومفضَّلة، ومن ثمّ يرتفع سعرها. كلّ ذلك جعل الكثير من الإماء يصلن إلى أمكنة عالية في الدولة، ويلدن الخلفاء والأمراء والقوّاد، في حين أنّهنّ في العصور التي تسبق العصر العباسيّ كنّ محتقرات، وكان أبناؤهنّ يسمون (الهجناء)، وهم أقلّ كثيراً من أبناء الحرائر.
بل إنّ الإماء المغنيّات أسهمنَ في توجيه الشعر في العصر العباسي، ولا سيّما أنّ الأمَة أصبحت مغنيّة، فلم يعد يستفزّها للغناء إلا أشعار لها خصائص موسيقيّة وفنيّة معيّنة، مما جعل الكثير من الشعراء يحاولون أن يستقرئوا أذواقهنّ لينسجوا أشعارهم على ما تطلبه أذواقهنّ.
المجون مستملح من الإماء
هل تعني أنّ القيود الاجتماعيّة على الحرّة كانت أشدّ، ومن ثمّ تخفّفت الأمَة من هذه القيود؟
- بلا شكّ، فكتب الأدب والتاريخ تنقل أنّ صفة المجون -على سبيل المثال- تُستملَح من الأمَة. كما أنّ المتوكل تزوج ريطة بنت العباس بن علي، وطلب منها أن تطمّ شعرها مثلما تفعل الجواري فرفضت، فهددها بالطلاق، فقالت الطلاق أحبّ إليّ وطلّقها. فالقيد الاجتماعيّ أشدّ على الحرة، بل إنّ الدين يفرِّق في الحجاب بين الحرة والأمَة.
هل ضيّق الدين على المرأة الحرة؟
- لا، الدين الإسلامي وسَّع حقوق المرأة، وقدَّم الرسول صلى الله عليه وسلم أنموذجاً فريداً في تعامله مع المرأة، والحديث يطول عن مكانة المرأة في الإسلام.
ماذا عن الحركات والمؤسسات المدنيّة التي تطالب بتحرير المرأة؟
- أعتقد أنّنا في منطقة صعبة في تعاملنا مع المرأة، فالمؤسسات المدنيّة التي تريد تحرير المرأة تطالب بما يتعارض أحياناً مع ديننا وقيَمنا، وإذا قرّرنا أن ننطلق من الدين للتعامل مع المرأة؛ فإنّنا أمام تفسيرات مختلفة للنصّ الديني في الحجاب والاختلاط...إلخ.
يمكن أن يُتبنّى المنهج الوسطي؟
- كلّ يرى أنّه وسطيّ، فابن لادن يرى أنّه وسطيّ، واسمع أيَّ رأي فقهي يصدر من فقيه أو من ليبرالي فسيقول: (لا بدّ أن نكون وسطيّين). بل إنّ الفهم المغلوط للوسطيّة قد يجعل المرء بلا رأي، فهو يحاول أن يوفِّق بين الآراء ليكون وسطياً دون أن يكوِّن رأياً.
أعود إلى القول: إنّ الدعوات المطالبة بتحرير المرأة قد تطالب بما يخالف ثقافتنا مخالفة لا يمكن أن يتعايش معها المجتمع.
لابد من التقنين الشرعي
وكيف يمكن للمرأة أن تأخذ حقوقها؟
- أعتقد أنّ تقنين الشريعة أصبح أمراً لا مناص عنه، فحقوق المرأة والرجل ستكون مهدرة إن لم يحمِها القانون، وأقصد بالقانون القانون المستمدّ من الشريعة الذي يُطبّق دون استثناءات، ويُصاغ هذا القانون بما لا يتعارض مع أصول الإسلام وأحكامه (مع صعوبة التوفيق بين الآراء). ولا بدّ أن يحمي هذا القانون المرأة من كلّ الممارسات التعسفيّة التي تُمارَس ضدّها في بعض المجتمعات داخل البيئة السعوديّة.
الأمر يتوقف بحسب كل مجتمع
هل المرأة مسلوبة الحقوق داخل البيئة السعودية؟
- المرأة تأخذ أكثر من حقوقها في بعض المجتمعات ولا تنال أياً من حقوقها في مجتمعات أخرى داخل البيئة السعوديّة، ولذلك لا بدّ من سنّ أنظمة تحمي المرأة وتُجرِّم أيّ اضطهاد ضدّها، وتبيِّن بشكل دقيق حقوق المرأة وواجباتها. بل إنّ الأنظمة تحمي الرجل والطفل والإنسان عموماً حتى يعرف ما له وما عليه.
الأدب النسوي في العصر الحديث
نعود إلى الأدب، وأريد أن أسألك عن نظرة المرأة الشاعرة إلى الرجل في العصر الحاضر؟
- لم تعد المرأة تمتثل لتقليد شعري يستوجب أحياناً إذابة ذاتها في المجموع، ومن ثمّ أصبح لكلِّ شاعرة صورة ترسمها، وربّما لكلّ نصّ. وأصبحت هذه الصورة أعقد بسبب تعقّد الحياة وتراكميّة اللغة وانفتاح الأُفق الثقافيّ وغموض النصوص، وربّما كان غموض هذه الصورة وتباينها من شاعرة لأخرى ومن نصٍّ لآخر صدى لتردّد الأنثى وقلقها وتشتّتها، وصدى لطبيعة العصر، وللتغيرات الثقافيّة المستمرّة.
أين يتركز الأدب النسوي الآن؟
- السرد هو الفنّ النسوي الذي يحتاج المرأة وتحتاجه، وربّما لم تنضج أدواتها بعد، أو لم تكتشف المناطق الخصبة، ولكنّها مهيّأة لذلك.
وهل من الممكن أن نستقرئ صورة الرجل في الرواية النسوية؟
- فرقٌ بين مجتمع بدائيّ ومجتمع متطوّر ومُعقَّد، وعلى الرغم من أنّ السؤال عن الصورة مشروع، إلا أنّ السؤال الأهم هو كيف رسمت الأنثى شخوصها، وهل استطاعت المبدعة أن تحوك لنفسها خصوصيّة إبداعيّة لا تنفصل عن أنوثتها؟
مادام اسم المرأة فضيحة
في هذا العصر الثائر, هل لا يزال هناك من يقف ضد المرأة الأديبة؟
- نعم, وسيبقى. ما دام اسم المرأة فضيحة؛ فهل سيكون بثّ مشاعرها وأحاسيسها أمراً مقبولاً؟!
لكن نحن نرى كاتبات سعوديات كتبن ما يعده البعض تعدياً على (الفضيلة) ومع ذلك لم يلقين شيئاً من ذويهن؟
- نحن في بيئة محافظة بشكل عامّ، ولو وُجدت بعض الأُسَر المنفتحة فهم وسط مجتمع محافظ؛ أي لو وافقت العائلة فسيرفض المجتمع. وهنا يتبدّى دور المبدعة بأن تضطلع بدور يُقنع المجتمع دون أن يصدمه..مع أنّ الصدام له جانب إيجابيّ مقبول إذا كان ثمّة ارتقاء بالفهم أو الذوق، أمّا إن كان هذا الصدام لمجرّد الدويّ فهو -بلا شكّ- أمر غير مقبول.
اقتحام التابو
لِمَ تركِّز أغلب الروايات على العلاقة بين الجنسين خارج الإطار الشرعي؟
- رواج الرواية في السوق يتأتّى عبر الذين يشترون الرواية لا ليقرؤوا رواية؛ وإنّما ليسمعوا (سواليف).. وكلّما اقتحمت الرواية المحظور كانت (السواليف) أشهى، ولا سيّما أنّ المجتمع السعودي مجتمع مُغلق ومفصول. والفصل بين الجنسين في المجتمع السعودي جعل الرجل والأنثى يريدان أن يتلصّصا، واللافت أنّ الذين يعيشون خارج المجتمع يريدون أن يتلصّصوا على هذا المجتمع من خلال الرواية. ولا شكّ أنّ محاكمة المجتمع -أي مجتمع- أخلاقياً من خلال الأعمال الفنيّة تذويب لفنيّة الفنّ، فشخوص الرواية عندما يكونون أفراداً مستوحين من المجتمع تسقط الرواية فنياً، وتصبح أقرب للسيرة، إلا إن أُريد قراءة الرواية قراءة ثقافيّة أو اجتماعيّة. وحتّى لو كانت الرواية واقعيّة؛ فهي خلقٌ لشخوص يمكن أو يوجدوا، وليست حكايات لشخوص موجودين.
أعود لسؤالك لأقول: إنّ ضخّ (التابو) في الرواية كفيل بإنجاحها جماهيرياً عند من يبحثون عن (السواليف)، ولكن ماذا عن الجانب الفني؟
مشكلتنا هي
إسقاط الأحداث على الواقع
هل الجمهور يقرأ الرواية كتصوير واقع، أم كخيال من بنات أفكار الكاتب؟
- لا شكّ أنّ ثمّة مشكلة في التلقي، فالجمهور كثيراً ما يُسقط الأحداث على القاصّ، مما يجعل الكثير من المبدعين يحجمون عن الكتابة خشية أن يُقرنوا بأبطال قصصهم ورواياتهم. ولكنّ الروائيّ الحقيقيّ الذي يعيش همًّا لا يخشى مثل ذلك.
هل خدم الإنترنت الأديبات السعوديات؟
- كثيراً ما يردّد التقليديون التخويف من المخترعات الحديثة، ويتباكون على عدم الإقبال على الكتاب، وأعتقد أنّ الإنترنت كان له دور كبير في نشر العلم، وفي نشر الكتابة. في مراحل سابقة؛ لم يكن يكتب إلا الصفوة، ولكن الآن أصبح الجميع يكتب، ومن ثمّ ترتقي لغتُهم وأساليبهم (وقد لا ترتقي)، ولكنّ الأهمّ هو أنّ الكتابة أصبحت من حقّ الجميع. طبعاً لذلك آثار إيجابيّة وسلبيّة، فمن السلبيّات نشر الأميّة الفكريّة كتابيًّا، وهو حديث يطول. أعود إلى الإنترنت والرواية لأقول: إنّ هذه الطفرة في الكتابة أنتجت منتديات تضمّ شباباً وشابات يعبِّرون عن أنفسهم بأساليب تختلف عن الأساليب المعتادة، فاعتقد بعض النقّاد أنّ اللغة التي خرجت بها هذه الروائيّة أو تلك هي نتاج فرد، بيد أنّها في الحقيقة نتاج جمعي.
هل تقصد لغة بنات الرياض؟
- اللغة التي كُتبت بها (بنات الرياض) ليست لغة كاتبتها، ولكنّها لغة أنتجتها المنتديات السعوديّة الساخرة، وحين وجدها بعض النقّاد مكتوبة اعتقدوا أنّها طفرة لغويّة أنتجتها الروائيّة، فأشادوا بها.
وكيف تقرأ مستقبل الرواية النسوية؟
- ما نراه الآن من تجارب حتى وإن لم تنجح، يبشّر بطفرة روائية في المستقبل، أرجو أن تكون نوعيّة بعد أن كانت كميّة, وكثرة الروائيين والروائيات ظاهرة صحية تخدم الأدب.