هذه حتماً ليست (حكاية حب) كاتب آخر، لأن القصيبي لا يترك وراءه ولا ورقة توت تخفي عري انتماء الحكاية إلى مُخـْـتـلِـقِـها، فشخصية الكاتب تتـلبّس بطلها (السيد عريان)، وخبراته تجري على لسانه مما يجعله يظهر كبوق درامي لغازي القصيبي، يتحدث بنفس أسلوبه الساخر ويحاكي هزليته 17 وكوميدياه السوداء 98، يتبنى بنيته المعرفية وشاعريته، ويعبر عن أفكاره وآرائه في أعمق المسائل الكونية: الحياة والموت.
بطل الحكاية، السيد يعقوب العريان، محامي صاحب مكتب كبير للاستشارات القانونية، وهذا رابط واضح بينه وبين الكاتب خريج الحقوق والحاصل على دكتوراه في القانون الدولي، ومثله أيضاً هو يكتب الروايات في أوقات فراغه للتسلية معترفاً: (أنا لست روائياً محترفاً. حقيقة الأمر أني لست روائياً على الاطلاق. مهنتي المحاماة. وأنا أتسلى بالكتابة في أوقات الفراغ). 36
لا تقوم هذه الدراسة على ربط أحداث الحكاية مع وقائع في حياة كاتبها، فليس هذا تحرياً ينوي كشف أسراره الخاصة، هي حكاية غازي القصيبي لأنه يمتلكها ويمسك بزمامها بقوة ويتحكم بشخوصها ووقائعها ويفرض على حبكتها وطرائق سردها خط سير محدد يخدم أغراضه الفكرية ويصلح لتمرير فلسفته في الحياة.
ولعل أقوى الأدلة على ارتباط الحكاية بكاتبها هو البناء السردي للحكاية والذي يقوم على خطوط مزدوجة ومتوازية ومتقاطعة يحكمها نظام من الروابط يسمح لها بالانخراط في حقل من العلاقات التي توازن بين أجزائه المتراوحة.
تنم قواعد هذه اللعبة السردية عن رؤية الكاتب الشمولية واطلاعه الواسع اللذان يمنحانه القدرة على استشعار الروابط الموضوعية بين النصوص المستعارة والمؤلفة داخل النص الرئيس.
يضع القصيبي موضوعه المختار (حكاية الحب) في بؤرة الأحداث بينما يستجمع من عالمه الفكري نصوصاً طارئة على النص يصفـّها بموازاة ذلك الموضوع فيصنع منها متوازيات حكائية يستعين بها في عملية تطعيم للخط الدرامي الأساسي على اعتبار أنها مكملات للسرد، يلقي عليها الضوء فتضيئه أكثر.
تعتمد هذه التقنية السردية على التركيب وعلى ميكانيزم السياق وعلى النقلات التي تشبه المونتاج، ويأتي الشكل النهائي للنص على هيئة لوحة كولاجية (collage) ترقيعية (quilt) تجتمع فيها قصاصات من أنواع مختلفة لتكون انعكاسات للسرد الرئيس فتمنحه أبعاداً متعددة.
يشتغل هذا النص على معادلة موضوعية تمتد عناصرها وتنكمش من حين لآخر: رجل في خريف العمر يقع في حب فتاة في عمر الزهور، ويمكن ترجمة خريف العمر بقرب النهاية، أي الموت، كما يمكن ترجمة الخريف إلى الذبول والسقوط، أي المرض المنذر بالموت، أما الحب فهو القوة الدافعة للتمسك بالحياة التي تمثلها الفتاة اليانعة. هذه هي التيمة الأساسية التي يبحث لها الكاتب عن نصوص مماثلة تعالجها من مختلف زواياها فيبدو النص وكأنه ينخرط في جماعة مؤازارة (support group) تشد من عضده وتخفف معاناته وتطمئنه بأنه ليس وحيداً. على صفحة الغلاف تظهر لوحة بعنوان (Catax) للفنان الفرنسي فرانسيس بيكابيا Francis) Picabia 1879 -1959) المعروف باتباعه الطريقة الدادية في الرسم وبانتماءه للمدرسة السيريالية، وهذه اللوحة ومثيلاتها توضح أسلوب بيكابيا في الرسم المتميز بتراكب الأشكال وتشابكها بحيث تظهر مكونات اللوحة وكأنها لوحات متداخلة ومشتركة في كثير من الخطوط الرئيسية. ويعمد هذا الفنان إلى التعبير بطريقة الشفافيات الصقيلة التي تسمح بتراكم طبقات من الصور فوق بعضها، فتتزاوج الخطوط وتندمج وتظهر كلوحة واحدة كولاجية ومزدوجة في آن.
ترتبط هذه الشفافية في ذهن بيكابيا برقة أجنحة الفراش التي لا تكاد تخفي ما خلفها، وقد يفسر هذا اختياره لعنوان اللوحة وهو اسم لنوع نادر من الفراشات (Eriogaster catax). وينسجم هذا العنوان للوحة الغلاف وأشكال الفراشات المدمجة بين خطوطها مع منهجية السرد المعتمدة على الازدواج والخلط، كما أنه يشير بقوة أيضاً إلى كاتب النص القصيبي الذي يدرك جيداً أن خطوط الحياة المتشابكة تجمع بين مصائر الناس بنفس الطريقة بحيث يعيش الناس كلهم حياة واحدة في نفس الوقت الذي يعيش كل منهم حياته الخاصة المنفصلة. بل إن اختيار الفراشة في حد ذاته يوضح أيضاً كيف أن حياة الفرد الواحدة تتشكل من مراحل وطبقات وزوايا متعددة، فالفراشة الواحدة تنمو في مراحل تدريجية فتتحول من بيضة إلى دودة، ثم من عذراء إلى سرفة داخل شرنقة تخرج منها الفراشة. بفضل الانسلاخات المتتالية تغير الفراشة هيئتها وإن بقيت فراشة واحدة. هكذا يرى غازي القصيبي نفسه، كتلة واحدة من الشخوص المدمجة، لذلك فهو حين يكتب سيرته الشعرية يوضح لنا معضلة الجزء والكل هذه قائلاً في مقدمة (سيرة شعرية): (يمثل هذا الكتاب سيرتي الشعرية ويقف عند هذا الحد لا ي كاد يتجاوزه. بمعنى أن الكتاب يتحدث عني كشاعر فحسب، لا كتلميذ ولا كمدرس ولا كعميد كلية ولا كإداري ولا كعضو في مجلس الوزراء، ولا كسفير، ولا كأب، ولا كأخ، ولا كزوج، ولا كإبن، ولا ككاتب مفكر، ولا كأكاديمي، ولا كروائي).
ويستطرد قائلاً: (ونظراً لأني أعتبر نفسي إنساناً ذا جوانب متعددة.. أنا لا تتكون من أنا واحدة، ولكن من أنا وأنا وأنا... طبقات الأنا تتراكم كما تلتف قشرة البصلة بأختها.. (9).
هذه اللوحة على صفحة الغلاف تصف منهجية السرد التي سيتبعها غازي القصيبي في حكايته، فهو سيختار موضوعاً ثم ينسج من حوله مواضيع مشابهة تظل كلها حاضرة دون أن تطغى على بعضها البعض أو تشكل تنافراً فيما بينهما. وتأتي أول مؤازرة للنص في مدخله، أي سابقة له تتقدمه وكأنها تشجعه على الظهور وتعلن له أن الطريق آمن. يستعين غازي القصيبي بمقطع من قصيدة الخريف لإبراهيم ناجي يقول فيه:
عندما أزمع ركب العمر
رحلة نحو المغاني الآخر
ظهرت تجلوك كف القدر صورة أروع ما في الصور
تتراءى في الشباب العطر نفحة تحمل طيب السحر
وقف العمر لها معتذراً وثنى الركب عنان السفر
ما تقوله هذه الأبيات يتناسب تماماً مع عناصر المعادلة السابقة، المحبوب ذو الشباب العطر الذي يطلع على رحلة شارفت على الانتهاء. خط السير واضح لركب العمر هنا، ومن خلاله يتضح أيضاً خط سير الأحداث في الحكاية: بدايتها ونموها ونهايتها. وعلى أن القارئ يستطيع أن يستشف من هذا المدخل ما ستسرده الصفحات التالية إلا أنه يظل متشوقاً لمعرفة كيف ستسرده وما هو الجديد الذي ستأتي به.
أول ما يلفت النظر في هذا النص هو أنه مقسوم بين ثلاثة عوالم مختلفة وإن تداخلت وتشابكت خطوطها في كل المواقف: عالم الحلم وعالم الواقع وعالم الخيال. على سطح السرد الواقعي يلوذ السيد يعقوب عريان الموشك على الموت بمكان معد للموت 12: (الهوسبيز أو دار للمرضى الميئوس من شفائهم يجدون فيه كل وسائل الراحة والعقاقير الضرورية التي تجنبهم الألم وينتظرون حتى يموتون من تلقاء أنفسهم) 41. تحت تأثير هذه العقاقير المهدئة والمخدرة يستسلم السيد يعقوب العريان لأحلامه وأضغاثها وكوابيسها ليفتح أبواب العالم الثاني في النص. في عالم الحلم تتعرى حكاية الحب المتسترة بالكتمان على مدى أربع سنوات ماضية، تبدأ في التشكف من منتصفها، ثم يعود الحلم بنا إلى الوراء في الزمن ليستعيد بداياتها ويتابع تطورها حتى يصل إلى وصف اللقاء الأخير بين يعقوب وحبيبته الشابة روضة ثم وداعهما الحزين المعلن للنهاية.
أحلام يعقوب التي تحفزها المسكنات تقفز به في حركة ارتجاعية مكوكية فتبدو وكأنها ذكريات أكثر من كونها أحلاماً، خاصة وأن هذه القفزات تأتي بشكل منتظم زمنياً وتتميز بانتقائية سببية مرتبة. بدلاً من أن يحلم يعقوب ويفيق ليروي للقارئ حلمه بوعي المدرك للفرق بين حلمه وواقعه، فإنه يصطحب القارئ معه إلى عالم الأحلام ويعرض عليه هناك بشكل مباشر ومنتظم أحداث الماضي التي شكلت حكاية حبه. هكذا تنتظم الحكاية عن طريق الاسترجاع التكميلي الذي يحدث مفارقة زمنية تعيدنا إلى الماضي بالنسبة للحظة الراهنة، لكنه استرجاع يخضع لتأثير المسكن الذي يعطل تلاشيه سير التصاعد السردي للحدث الماضوي. بيد أن تكرار الجرعات المخدرة يعيد التواصل مع الماضي فيتضح الفارق الزمني بين العالمين اللذين يسيران في اتجاه مستقبلي واحد وإن سبق أحدهما الآخر، ولهذا فالاسترجاع تكميلي بحق. يتقطع التتابع الزمني لسرد الأحداث بين الصحو والغفوة لكن ذلك لا يؤثر على التعاقب المرتب لظهور الأحداث الماضوية الحلمية، بمعنى أن حكاية الحب تـُسرد بترتيب يضمن لها بداية ووسط ونهاية متوالية.
على سرير الاحتضار في المصحّ ينفصل يعقوب عن زمنه الطبيعي ويسير من خلال أحلامه في اتجاه زمني مخالف، وإمعاناً في الانفصال، فإن كل زمن يستقل بأفراده وأحداثه ولغته ولا يترك سوى ظلالاً باهتة على عالم الزمن الآخر. من الواضح إذاً أن شخوص الماضي لا تظهر في فضاء الحدث الحالي، وأن حكاية الحب المنتهية قبل ابتداء النص ليس لها تأثير على سير الأحداث الحاضرة كما أنها لن تتأثر بها، ففصولها قد تمت قبل دخول يعقوب المصح. هذه الوحدة السردية القبلية لا وجود حقيقي لها إلا في استدعاءات الماضي الحلمية لذا فهي تظل بنية إضافية متوازية زمنياً، متباينة مكانياً، متساوية وضوحاً ودقة إلى درجة يصعب عندها التفريق بين ما هو حلمي وما هو واقعي.
* * *
لإبداء الرأي حول هذا المقال، أرسل رسالة قصيرة SMS تبدأ برقم الكاتبة«7712» ثم أرسلها إلى الكود 82244