(1)
لكل كتاب خلفيّة وهدف. ويختلط في ذلك الذاتي مع الموضوعي. والعقدي مع المعرفي، ولذا استأذن القارئ لأضعه في أجواء شكلت في مجموعها الفكرة الرئيسة التي كانت وراء كتابة هذا الكتاب.
قبل ما يقرب من نصف قرن تقريباً، كتبت سلسلة مقالات في جريدة الجزيرة السعودية الصادرة في الرياض، أنعى فيها الغياب الحضاري لأمة ذات حضارة عريقة، وأعني بها الأمّة العربيّة والإسلاميّة، وأعتقد أن ذلك كان بين العامين (1384هـ) أو (1385هـ) واعتبرت حينذاك (مدفوعاً بحماس الشباب) أن الحضارة الإسلاميّة الأساس والأصل للحضارة المعاصرة. ومنذ ذلك الحين وقضية (النهضة) و(التخلف) تشغل الحيز الأكبر من تفكيري وتعبيري، وقد تجلى ذلك واضحاً في كتبي السابقة. واعترف أنني التمست المخرج من المأزق الفكري والمنهجي في الثورة المعرفية المعاصرة، وتبدى لي أن الطريق الوحيد هو النهج الذي سارت عليه الدول المتقدمة في الغرب أو الشرق، وكان موقفي دائماً هو البحث عن صيغة حضاريّة تخرج الأمّة من حالة تخلف وانكسار وهزيمة حضاريّة تعيشها منذ قرون.
في عقد (الستينيات) الميلادي كان لدينا حلم وهدف وتفاؤل بنهوض للأمّة،
وجاءت الأحداث السياسية الكبرى في تاريخنا المعاصر، تكشف لنا أن (الحلم) مجرد (وهم)، وأن أولئك الذين كانوا يبشرون بالحلم لم يكونوا في مستوى التحديات التي تعيشها الأمة، وجاءت نكبة حزيران، والحرب الأهليّة في الأردن، وحرب أكتوبر، ومعاهدة كامب ديفد، والحرب الأهليّة اللبنانيّة ثم أزمات الخليج المتتالية، ثم احتلال العراق..؟!
وأمام كل منعطف هزيمة أقف حائراً في محاولة جادة للبحث عن جوانب للحقيقة.
فتشت في دفاتر التاريخ المعاصر، ابتداء من النصف الثاني من القرن التاسع عشر، فوجدت ما طرحه (الكواكبي) و(أديب اسحق) و(جمال الدين الأفغاني) و(محمد عبده)، و (لطفي السيد).. إلخ. من أفكار أو مفاهيم أو مشروعات للإصلاح، تبدأ من رفض الاستبداد السياسي وإصلاح مناهج التعليم، والبحث عن خيارات تقرر حقوق المواطنين في أوطانهم ليعيشوا بحريّة وأمن وأمان ومساواة، وعدل ..إلخ. كانوا كلهم دعاة تحديث مع اختلاف في المنطلقات، وكلهم يرون الالتحاق بالركب الحضاري وسيلة خلاص للأمّة، وذلك عن طريق تبني مشروع سياسي ثقافي شامل يساير العصر وروحه، ويوظف ما لدى الآخرين من تجارب ومعارف، ثم جاءت حقبة سياسية ليبيرالية، في النصف الأول من القرن العشرين، كتبت فيها دساتير واحتكم الجميع لصناديق الاقتراع في كل من (مصر والعراق، وسوريا). ثم انتكست الحقبة كلها.. وجاء زمن الانقلابات العسكرية في الدول الثلاث. ولا زال العرب يعانون من مأساة تخلف وهزيمة حضارية، وما زال الخطاب الثقافي يعيد إنتاج نفس المقولات والمفاهيم والأطروحات، وكأننا عدنا لنقطة الصفر. فلا تزال الأمة تتراجع وتتعرض لتحديات أكبر من قدرتها وإمكاناتها وتخرج من هزيمة إلى أخرى. وتساءلت مع الكثيرين لماذا؟ هل العيب في الأطروحة ذاتها، أم بالأمة؟ أم بماذا؟
هذه الأسئلة كانت مدار تأملاتي الطويلة في السنوات الأخيرة، حيث أقمت في (ضيعة) في المتن الشمالي في لبنان، كتبت خلالها كتابي (أفي الله شك). وكنت خلال تلك (الفترة) كلما شعرت بالوحدة أو الألم لما آل إليه حال الأمّة، ألجأ إلى القرآن الكريم، أتلوه بخشوع وتدبر؛ فأحس بتجاوز لحالة الضيق، واكتشفت ومع الأسف في وقت متأخر من حياتي الثقافيّة، هذا النور الإلهي، فهو ليس شفاءً للنفس فحسب، بل أيضاً يجيب عن تساؤلاتي بوضوح، ومع مداومة قراءة القرآن انتظمت في ذهني معان واضحة لسنن الله في هذا الكون، (قوانين الطبيعة والاجتماع)، وبدأت أرى تاريخ الأمة، وعالمنا المعاصر في ضوء هذه (السنن) التي تجسد حكمة الخالق ووظيفة المخلوق. وهذا الكتاب هو محاولة قراءة لهذه السنن في أوقات النصر وزمن الهزيمة.. وهي كما ترى قراءة تاريخية تنتهي بسقوط الدولة العباسية تحت سنابك وأقدام (المغول).
(2)
وأعود لخلفيّة الكتاب.؟!
في عقد السبعينيات الميلاديّة، صدر لي كتاب (أوراق وطنيّة)، تضمن محاولة جادة لاستخلاص منهج يعين على تفسير ما نحن فيه وما نعانيه من هزائم روحيّة وحضاريّة وأخلاقيّة. والقارئ لذلك الكتاب يدرك وللوهلة الأولى تأثيرات هيجلية، مع تأثر بالمادية الجدلية، وبصفة عامة فالكتاب كان ينتمي إلى فكر اليسار. عندما كتبت الكتاب، كنت وقتها أقيم في الولايات المتحدة الأمريكية. وكنا بعد حرب أكتوبر نعاني من أشكال الدعم الغربي لإسرائيل وما يقدمه الفكر الصهيوني وأنصاره في الساحة الأمريكية من دعاية منظمة ضد كل ما هو عربي، إنساناً وديناً وثقافة وتاريخاً وهوية. وبالمقابل كان الاتحاد السوفيتي يدعم الحق العربي ويتخذ موقفاً سياسياً مناهضاً للعدوان الإسرائيلي. ولعل للموقف السياسي آنذاك، وكذا المشهد الثقافي، الأثر الكبير في تشكيل رؤية ارتكزت على منهج بدا لي وقتها أنه قد يعين على خلاص الأمة من هزيمة حضارية وعسكرية وسياسية. ومع ذلك فقد بقيت ظلال من الشك تحيط بالرؤية والمنهج تتشكل على استيحاء وفي تردد، وبقيت مع هذه الظلال تساؤلات معقدة ومركبة ذات علاقة مباشرة بالأحداث الساخنة على الساحة العربية آنذاك، تختفي ثم تظهر من حين لآخر.
في عقد الثمانينيات الميلادية، دخلت (إسرائيل) بيروت، وخرج ياسر عرفات ومعه فتح ومنظمة التحرير الفلسطينية إلى منفى جديد، واشتعلت الحرب الإيرانية -العراقية. وجاءت (البيروسترايكا) يطرحها (غورباتشوف) مخرجاً لأزمة نظام يحتضر. وفتحت آفاق لتساؤلات جادة حول طبيعة الدولة السوفيتية، وتكشفت للعالم أخطاء وأوهام ذاعت وشاعت. ثم تبين لنا أن المسار السوفيتي من أكثر الأخطاء البشرية في عصرنا الحديث.
ونشأت أسئلة جديدة وصعبة، وتبلور شعور باليأس من غربة الزمان وتحديات الظروف. والقارئ لكتابي (إشكالات فكرية) وقد كتبت معظم فصوله في تلك الفترة يدرك من خلال مناقشاتي لكل من (ديكارت) و(كانت) و(هوسرل) و(فرويد)، وغيرهم أقول من يقرأ الكتاب يدرك عمق المشكل المنهجي الذي عشته خلال الثمانينيات، حيرة فتساؤلات ويأس، مع غربة وحزن وعجز.
كانت حرب الخليج الأولى مغامرة غير محسوبة وغبية، وبصفة عامة غير مبررة سياسياً واخلاقيّاً. ثم جاءت حرب الخليج الثانية، (احتلال الكويت وما تلاه، عاصفة الصحراء). وكانت صدمة عميقة لنا جميعاً أنها من أكبر الأخطاء الاستراتيجية في تاريخنا المعاصر. وما نعانيه اليوم كعرب هو نتائج وذيول لما آلت إليه الأحداث بعد حرب الخليج الثانية.
إن هناك نماذج من القادة يبدون خلال مسيرة حياتهم السياسية عاديين، وعندما يتوارون عن الأنظار تظهر لهم بصمات عميقة تغير مجرى التاريخ، وهناك نماذج من القادة تصنعهم ظروف غير شرعية وهجينة، يكونون السبب في كوارث لا حصر لها. اقتناعي ويقيني أن (صدام حسين) زعيم أحمق مسكون بهواجس حب الذات ونرجسية مريضة، وفاشية قمعية مجرمة. ويدفع العراق ومعه الأمة، نتائج سياسته غير المسؤولة وغير المدروسة والحمقى بكل المقاييس والمعايير.
ولقد عبرت وقتها في كتابي (أزمة الخليج) عن الاضطراب الذي تركته الحرب علينا جميعاً، وقلت في مقدمة الكتاب ما معناه أرجو أن لا نضيع بين مغامر أحمق يعبد الزعامة، وفقيه يدعي الولاية، وشيخ طريقة يحترف الدروشة.
ومع محاولتي في مقدمة كتابي (لكي لا تختلط الأوراق) ومراجعاتي في كتابي (أزمة الخطاب السياسي)، وكلاهما يدور حول حرب الخليج الثانية، بدأت بذور منهج جديد أتلمس فيه الطريق على استحياء وتردد. لقد كنا قبل حرب الخليج الأولى والثانية، دعاة وحدة للأمة كلها، وكانت الوحدة مشروعاً وحلماً وهدفاً؛ فأصبحنا بفعل الأحداث السياسية التي فرضت على الأمّة دعاة للدولة الوطنية خوفاً من تفكك الدولة وضياع الوطن. وكنا نرى أن الأمة تسير بخط صاعد متقدم إلى الأمام، فجاءت الأحداث من حولنا تؤكد أننا نتراجع بمعدلات مقلقة؛ فالأمة كلها تعاني من ارتفاع بمعدلات الأمية، والفقر والمرض، والأحوال كلها تسير من وضع صعب إلى وضع أصعب. وتوقفت فترة للمراجعة، صدر لي وقتها وفي عقد (التسعينات الميلادية) كتاب (الجنون العاقل)، وكتاب (سفر الخروج) وفي الكتاب الأخير يلمس القارئ معاناة من نوع مختلف معاناتي كباحث في العلوم الإنسانية، عبر تجربتي الذاتية كمختص في الدراسات النفسية والتربوية.
وفي الكتابين معاً هروب من مأزق السياسي في تكويني الفكري، إلى مأزق المعرفي في ميدان تخصصي. ومع هذا فإن البحث عن منهج نفسّر به الأحداث من حولنا كان رائدي دائماً منذ أن وعيت على الأسئلة الشقية والصعبة في داخلي.
في آخر كتاب كتبته: (أفي الله شك) حاولت عبر تجربة ذاتية بحتة، أن أتعامل مع الأسئلة التي يحاول البعض أن يجعل منها محوراً يدور حوله عندما يأتي الحديث عن (الدين). وأحمد الله الذي وفقني في تلك الفترة إلى مراجعة ذاتية عميقة، لقد أحسست طعم الإيمان وروعته، وزالت من ذهني تساؤلات بقيت مضمرة ومستترة حول الدين. ووجدت في تطور العلم ما يعزز قناعة الإيمان، ثم وفي نفس الفترة اكتشفت نور القرآن في داخلي، فشعرت بالسلام الداخلي العميق الذي لم أشعر به طيلة حياتي، والحديث عن هذه التجربة ليس هذا مكانها، فهي عميقة وغنية وروحية بامتياز.
الإيمان (نور) يغمر قلب المؤمن فيرى من خلاله مشاهد الخلق وعظمة الخالق، والذي لا يستشعر حلاوة الإيمان يصعب عليه أن يستشعر هذا النور، فيشعر بالسكينة والاطمئنان.
إن قلق المعرفة لمن تعذبه الأسئلة الشقية والصعبة هو من أشرس وأقسى أنواع القلق عذاباً، وليس هناك ما يساوي لذة الشعور بالأمن عندما تشعر أن الله سبحانه وتعالى يخاطبك مباشرة في كتابه الكريم. وتجد في الوقت ذاته الإجابة عن الأسئلة الكونية الصعبة التي انشغلت بها وعلى مدار عقود من الزمن. إن نعمة الإيمان لا تساويها نعمة أخرى في هذه الحياة؛ فإذا قست عليك الحياة فزعت للقاهر فوق عباده الرب الرحيم والرؤوف والمنعم. وإذا حققت هدفاً من أهدافك، شكرت وتواضعت لعظمته، وحمدته على توفيقه وإحسانه. والمؤمن الذي يقرأ القرآن بتدبر ووعي، يدرك أن الحياة الدنيا في جوهرها (ابتلاء) – أي اختبار-؛ اختبار لإرادتك في قمع نوازع الشر في داخلك، وترويض الشهوات، وتجنب فتنة الشبهات والشهوات. وهي أيضاً اختبار لأخلاقك وخشيتك وخوفك وطمعك فيما عند الله. فإن أوذيت احتسبت ذلك عند الله، وإن أنعم عليك، حمدت الله وشكرت. هذا التوازن المذهل لا يعلمه ولا يحسه ولا يستشعره إلا من عاش تجربة حياتية وهو مؤمناً بالله حقاً.
ولكن الإيمان بالله يتضمن مسؤولية كبرى؛ فالمسلم مكلف ليس بنقل الرسالة الإسلامية فحسب، بل أيضاً بالدعوة إلى الإصلاح، وتصحيح الأخطاء، والإسهام في تحقيق الرسالة كل حسب قدرته وإمكاناته. ولذلك فإن ضعف الإيمان وسوء فهم هذا الدين الإسلامي العظيم، من أسباب هزيمة أمّة كلفت
بالدعوة والتبليغ. وفي الوقت نفسه تخلت عن رسالة (العدل) لتحول الدين إلى شكليات لا قيمة حقيقية لها؛ فتخلت عن الجوهر وتعلقت بالقشور، أو خرجت متأثرة بمذاهب أخرى غير إسلاميّة، فزاغت، فأزاغ الله القلوب.. (فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم).
ومن هنا أصاب الأمّة الضعف والهوان والهزيمة. إنك لا تستطيع أن تبلغ رسالة، ما لم تكن أنت (مجتمعاً ودولة) متمثلاً هذه الرسالة في نظمك السياسية والاقتصادية والاجتماعية والأخلاقية. فإذا لم يشاهد الآخرون ذلك، فإنهم لن يستجيبوا لدعوة لم تطبقها الأمّة في حياتها.
* * *
يتبع
* مقدمة كتاب جديد للدكتور المرزوقي ينتظر صدوره قريباً عن مركز ابن صالح الثقافي في عنيزة.