استراحة داخل صومعة الفكر رائحة التراب
|
*سعد البواردي
رائحة البشر هي رائحة التراب.. من التراب جئنا وإلى التراب نعود.. قد نعطر رائحته بطيب شمنا.. وعلمنا.. وحلمنا.. وفهمنا للحياة درساً ونتيجة.. وقد نضع من التراب مجرد أرض قاحلة يعلوها الغبار.. وينقع فوقها غبار البين..
إبراهيم مفتاح استخدم مفتاح خزنته الشعرية الأرضية كي يكشف لنا ما هية التراب الذي استنشقه وألمَّ برائحته..
ولأن تراب وطنه هو الأقرب إليه فتح بوابة مختبره.. وفتح معه بوابة أنفه دون أن يصاب بالزكام.. لأن الرائحة جاءت ندية زكية..
هذي المفاتن في عينيك تأتلق
وفي رحابك هذا السحر. والألق
وفي ثراك من التاريخ ادسمة
تلملم الشمس أعراساً. وتنطلق
تراب شاعرنا تراب تاريخ.. تراب ماض زاهر.. وحاضر واعد.. ومستقبل مأمول..
فأنت يا وطني ماض يعانق
زهو البطولات. والإشراق. والعبق
وأنت في حاضر تكسوه أجنحة
علوّها من بياض الصبح ينبثق
يغازل الفجر في عينيك أغنية
ويزدهي في سماك الليل والشفق
إلى أن يقول:
ما مسّك الضر يوماً منذ أن هبطت
فيك الرسالات. أو أسرى بك الأرق
هذا هو دعاء الوطن ونشيده الحي المنتمي.. والدعاء عقيدة يجب الحفاظ عليها عملاً وقولاً لصد أي خلل.. أو علل.. أو اعتداء يستهدف أمنه وإيمان من داخله ومن خارجه..
وللوطن أيضاً خفقه المعلق على رمش عينيه.. أنه يبصر بعيون وطنه:
على شرفتي للهوى موعد
وفي خاطري للأماني غد
وفي داخلي يزدهي موطن
لعشقي على أرضه مولد
يكحل فجر الهدى مقلتيه
وللشمس في جفنه مردد
شعر ينبض بمشاعر الحب.. قيثارته تسكب لحونها في شرايين الحياة متدفقة طروبة.. إنه المعطاء للتراب وللتراث.. وللتاريخ هذا ما صاغه في مقطوعته الثالثة (الموطن والمعطاء).
ها أنت يا موطني في داخلي وهج
وفي سمائي شعاع مطلق البصر
وفي فؤادي انطلاق يزدهي ألقا
وفي خيالي افتتان رائع الصور
ثلاث قصائد كواحدة.. وواحدة كثلاث.. خصَّ بها وطنه فأجاد.. وأفاد.. هذا هو الشعر.. من دائرة الوطن إلى حالة عصيان استثنائية.. على من يأتي هذا العصيان؟ وعلى ماذا؟ ولماذا؟ هذا ما أبحث عنه في تجاويف أبياته..
بعثر سؤالك حوالي كي أجمِّعه
واضمم جناح فمي صمتاً لتسمعه
وخذ بناصيتي بعداً يراكمني
فواصلا في متاهات المدى معه
وفي سوأة عصيانه لملم عذره داخل شفته كي يلقي به بين الركام إلا أن تمنعه أقصاه وراح يذرع الدرب في خطوات تائهة.. لعله أبصر شيئاً أغاظه وساقه إلى التمرد:
طفل تراكمت الآلام في فمه
وأتخمت بصرير المقيد أذرعه
هل كان عاصياً لأمه.. عاقاً بها؟ أم غيره لنستمع:
ألغت رجولته الحضن الذي انسكبت
أنّاته في حناياها تُجمِّعه
وجاء دورها هي مباركة ذلك العصيان الاستثنائي.. ربما على ظلم كان وحيدها هو الضحية..
قالت له بورك العصيان. وارتجلت عن حزنها دمعة حرَّى تودعه
رشت بمقلتيها أنفاس جبهته
وزغردت في مآقيها مدامعه
فراح يهمس للمقلاع لعبته
وراح يعدو كأن اللهو يدفعه
صراع له جان.. وضحية.. ومتمرد انتهى بمياه دافئة عادت إلى مجاريها في أحضان شجرة حانية اسمها الأمومة..
نتجاوز البسوس وهبوبها.. فهي لافحة كالنار.. ثقيلة كالأقدام الهمجية.. نوقها تنفق.. وسحابها لا يمطر..
التقاطعات هي الأخرى بؤرة أرق.. وإنهاك طرق.. وطعن إلى درجة أن ساعة شاعرنا لم تحتمل عقاربها الفوضى فتوقفت.. إنه يلخصها في أبياته الثلاثة..
فارتدي وهم أشيائي وأسئلتي
وارتدي مخرجاً يفضي إلى نفق
تورمت لغتي حين اشتملت بها
واصفر لون مدادي في سما أفقي
هنا شربت صباحي وابتدأت ضحى
وساومتني انتظاراً حمرة الشفق
حسناً فعل قبل أن يلج الليل بسواده وأشباحه المفزعة.. (لا خراج بعد المطر).. كما لا رؤاء بعد العطر.. هات يا شاعرنا فراج.. نحن جميعاً إياك ننتظر..
احضري لا حيث شئتِ
لا كما تهوين
أو تهوى اشتهاءات الرياح
إنها لا تقوى على اشتراطاتك.. فهي سحائب مسخّرة لا مخيّرة.. ثم لماذا خصوصية النفع حتى ولو كانت الصحارى عطشى.. لنا في مقولة شاعرنا المتقدم زمناً والمتقدم إيثاراً وقدوة مثل:
فلا نزلت عليَّ ولا بأرضي
سحائب ليس تنتظم البلاد
دعها تمطر كما قدِّر لها أن تمطر لأن وظيفتها لغيرك.. وستأتي غيمة أخرى تملأ صحاريك العطشى ربما لأنها قدّرت لك.. أما خراج المطر من ثمر فقد عبّر عنه أحد الخلفاء الراشدين في عصرنا الذهبي أيام كانت مساحتنا وساحتنا على الأرض واسعة بقوله:
(أمطري حيث شئتِ فخراجك إلي).. وربيع عصرنا الحاضر نتلقفه في أسواقنا ومتاجرنا الكبيرة يفد إلينا من أقاصي الأرض.. هذا عن مطر السحاب.. أما ربيع الحياة ورطبها وجناها الروحي فبعقولنا وبسواعدنا نصنعه لا يحتاج إلى أن يصنعه غيرنا..
شاعرنا فتح لنا بوابة من التصور في قصر الحياة.. بوابة التشاؤب.. وهذا يعني أن هناك بوابات أخرى للنوم والصحوة. للتفاؤل والعمل. للتشاؤم والكسل.. وأشياء كثيرة أخرى.. ماذا حكى لنا عن بوابة تثاؤبه؟!
تهيأت طفلة للدخول
وأعجبها أن وجه الباب موصد
وأن عرى الباب مشدودة للوراء
وفي يد الحارس تفاحة
تأكل في وجهه الاحمرار
ومن فرط عجبها أو تعجبها قفلت راجعة إلى الوراء بخطوات ثقيلة.. أشفق الباب على خطواتها المرتدة.. تثاءب الباب. استفاق من نعاسه على وقع أقادمها الصغيرة.. أما ذلك الحارس المرتخي الذي يحمل التفاحة في يده فقد أصابته عدوى النعاس..
هناك على مرفقيه استراح المكان
وحرّك في غضب راحتيه
فهزت سؤالاً على مقلتيه!
الحديث للزمان هذه المرة يخاطب الطفلة الصغيرة: يسائلها كما لو كان عاشقاً!
ألا أيتها الطفلة القادمة
متى يكبر الوشم في معصميك؟
وتحلو الأساور في ساعديك؟
تعالي أضم جناحي إليك
يشعرها المكان أن للدرب ألف باب وباب منها ما هو محظور بحارسه.. ومنها ما هو مفتوح.. ومنها ما هو مغلق.
وللدرب في خطونا ألف باب وباب
يدق على عتباتها المستحيل
صورة شعرية رائعة تنزع إلى خيال الفكر الرحب يرسمها شاعرنا مفتاح.. ويفتح لنا بشاعريته فرصة تأمل فلسفي رحب المعنى..
(مقطوعة الغياب) غائبة عن التناول لا لضعفها ولكن لما بعدها.. وما بعدها الكثير.. ومثلما الخضاب وتواشيحه.. الساعة أزفت لساعة شاعرنا.. ماذا عنها؟!
لفاتنتي.. ساعة. ساعتان
وفي معصمي ساعة واحدة
لها عقرب في مسار الزمان
وآخر ينبو على القاعدة
يتمتم حيناً.. وحيناً يئن..
ويُسقط دقاته الزائدة
وحيناً يبدد ساعاته..
ويضيع وقتاً بلا فائدة
وحيناً يلملم في صمته
ثواني من عمرها شاردة
نعم.. شاعر قبلك أعطى لنا صورة الساعات والثواني والعمر..
دقات قلب المرء قائلة له
إن الحياة دقائق وثواني
أجمل ما فيها أن تحب.. وأجلَّ ما فيها أن تعمل.. وأرخص ما فيها أن تكسل..
رائحة تراب ثانية قد لا تختلف عن سابقتها نكتفي بالسابقة عن اللاحقة.. ونبحث عن (حالة) يعاني منها الكثيرون البسطاء..
تراجع آخر الأسبوع!
هنا في مكتبي ضيف
أتى لأهمية الموضوع..
*
أنا يا سيدي....
*
لماذا أنت مهتم
تمهل ريثما يأتي
تفضَّل خارج المكتب
زميلي بعد لحظات
سيأتي قبل موعده
صورة من صور البيروقراطية الوظيفية المرفوضة التي يتعامل بها البعض أمام مراجعيهم كسلاً في أداء عملهم.. أو أملاً في كسب يجنونه من مُراجع أكبر.. واقع تعيشه بعض دوائر عالمنا الثالث.. ضحاياه الصغار ممن لا يملكون القدرة على فتح الباب المغلق..
ليس أجمل ولا أعذب لدى الشاعر من شعره إذا ولد مكتمل النمو.. إنه أشبه بالوليد الجميل الذي يحييه عند كل صباح..
افتحوا الباب إلى بهو القصيدة
وأضيئوا عتمة النطق البليدة
واضحوا حبر القوافي رقة
ربما تأتي دلالات جديدة
يا صياح الشعر هلا مطر
يشعل الدرب مسارات وطيدة؟
يشرف الحرف على معصمه
رقة نشوى وخطوات عتيدة
ونهاراً ضم بشرى شاعر
وهجاً يأتي على كف قصيدة..
أبيات من مقطوعته الجميلة يستحقها هو بولاءات شعره التي تستحق فتح الباب لها إلى داخل البهو كأنها منحت قوافيه رقة.. وصباحه مطراً.. ونهاره شهادة بشرى بمولد شاعر..
الضياع أحد العناوين التي تلازم الشاعر في شعره.. الضياع من دون لا بحث.. ولا حركة.. ولا خوف.. ولا هدف يبحث عنه.. وشاعرنا إبراهيم مفتاح تعتمل في دواخله كل هذه الأشياء لأنه خائف من شيء ما لم نتعرف عليه بعد في زحمة عناوينه.
تافه.. تشكو العناوين ضياع اسمي
وتشكوني في المواقع
ويدي تمتد في اللا شيء!
كلما حاولت أن أغرس كفي في عيون الطرقات
أثقلتني لثغة الخطو
وأعيا شفتي الآه من طرح السؤال..
ولشدة خوفه يفزعه مشهد وجهه المهتز في صفحة الماء (الماء يَغْبَرّ. وطعم الريح يشويه وجه الصقيع.. أما رأسه فمثقل بغيوم لا يقوى على إذابتها وهج الشمس.. تشاؤم مرعب أطبق عليه لا أدري له سبباً ربما لحظة يأس.. أو لحظة بؤس.. أو لحظة إحساس بظلم..
كلما فتّحت في الأشياء عيني
آلمتني حرقة الأشياء
واندس حريق في جفون العابرين
كن جميلاً يا صاحبي تر الوجود جميلاً.. لا نملك صنع الفرح وحدنا.. ولن نقدر على مذاقه إلا على كأس الحلم.. وإراقة ما في الكأس من يأس.. تزاحمنا معاً في سعينا عبر الاستراحة محطات ومحطات جميلة لها عناوين ولها مضامين حيَّة لا يسمح الوقت الضيق الوقوف عندها:
(حتى تهدأ الريح). (جفان). (لكي لا تجيء).. (سباعية للصهيل). (بيش بعد الغياب). (أبها داخل الأسئلة) ولأن السفر يستهوينا.. والغوص يخيف من لا يجيد السباحة.. كان علينا جميعاً أن نسافر.. وأن نرقب بحره قبل أن نغوص فيه إذا كان ماء.. وليس شيئاً آخر..
كل المسارات في عينيك إبحار
وكل دمع على جفنتيك تيار
وكل نسمة صبح حين تلمسني
يخيفني بعدها للريح إعصار
وهأنا جئت مفتوناً وأسئلتي
على شفاه الصدى بالبوح تختار
سفر حب أقدم عليه غير هيَّاب ولا وجل.. ترى هل يقوى على أمواجه.. ومجابهة تياراته المتلاطمة..
يا بحر أغريتني بالصحو فاندفعت
سفائني وطوى الأبعاد إبحار
حكاية شاعرنا عطش مهجة.. وشوق حنايا ملتهب.. وعزف أوتار بين جوانبه.. ودمع، وضحى، ودانات، وأشعار.. ركام من الانفعالات أثقلت رأسه بتقاطعاتها.. وهو يهم بالسفر.. مودعاً في حرقة أعز وأغلى ما لديه.. ولديه..
حين اشتملت على كفي أمتعتي
كأنما أقفرت من أهلها الدار
حرقة الوداع هزّت جوانحه.. إلا أن السفر قدر.. وليس اختياراً هكذا ادعى لطفله وطفلته وهو يبرحها نحو سفر أملته ضرورة حياته..
وكلنا نسافر.. ونطعم أشواك الفراق.. وأشواق العودة..
شهرزاد القديمة تحدثت ليلاً كي تطيل أمد نجاتها كي لا تُقتل.. وشهرزدا مصباح تحدثت نهاراً جهاراً:
أطلت على الصمت. شاءت تقول
توارى الكلام وراء الخمار
أحست بما يشبه الغرغرات
ويسكب في الصوت طعم المرار
شهرزاد ممتهنة سياسة.. لا تتحدث عن الحب داخلية الحب.. دائماً عن الحرب وخبال صناع الحرب.
أحست ببطرس يتلو قراراً
ومجلس ظلم يجيز القرار
ومن قمة السقف جاءت عجوز
توحش في ظفرها الاحمرار
تناءى بها العمر حتى الجفاف
وساحت عواطفها في القطار
في دهاليز السياسة الدولية رفعت شهرزاد عقيرتها ساخطة على ظلم الكبار.. وقرارات الكبار.. وسياسات الكبار في وجه الشعوب المستضعفة التي تنشد حريتها.. وحقوقها السليبة.
مجلس الأمن الدولي الذي ما فتئ بأمينه.. وأعضائه الدائمين يقف موقف المنحاز لعدوانية الاحتلال الإسرائيلي المتوحش على أرض فلسطين منذ عام ثمانية وأربعين.. وبالذات في عهد العجوز التي عناها الشاعر (قولدا مائير).. وما قبلها وما بعدها حتى أيام شارون.. ومن يقف خلفه مؤازرة ومساندة..
إنها تخرج من دائرة الشكوى والضيق لمنظمة دولية مسيّرة.. إلى دائرة شعب يرزح ويئن تحت نير الاحتلال والإذلال والقهر.. هكذا جاء صوت شهرزاد قوياً وهي تصف الحالة المأساوية لشعب مشرَّد ومقهور
فلم يجد الطفل أماً رؤوماً
تخف عنه جحيم الحصار
ولا من يلملم أشلاءه
ويسبل عينيه في الاحتضار
ويطعمه قبلة للوداع
لتنبت في أرضه الاخضرار
أي أرض تحدثت عنها شهرزاد منذ عقود أربعة أو أكثر؟!
كان في فلسطين آبار فردمت.
كان في فلسطين حقول زيتون، وليمون فاقتلعت.
كان في فلسطين بقية من فلسطين فاحتلت.
كان في فلسطين مخيمات لمشردي عام 48 فهدّمت.. وأبدلت بخيام أخرى للاجئين أخر..
كان في فلسطين أقصى.. فأقصاه المحتل خلف الجدار العازل العنصري..
كان في فلسطين أمل باستقلال الفلسطينيين داخل وطنهم.. اهتز الأمل.. أما عودة الشتات فبقيت مجرد ذكريات.
كان في فسطين نشيد ترجعه إذاعاتنا.. توارى واختفى.. وبدلاً من مقولتنا القديمة (لا صوت إلا صوت المعركة) أصبحنا نردد عن بلادة وانهزامية (لا صوت إلا صوت الأمركة).
هذا واقع اليوم يا شهرزاد اليوم.. زاد الطين بلة.. ما رفضناه بالأمس نسعى جاهدين للحصول عليه اليوم ولن نحصل.. أما أنت يا شاعرنا المتجلي بمشاعره الجميلة الجيدة فلن أقول.. ولن تقول.. ولن نقول معاً أصدق من قول شاعرنا الكبير
رب يوم بكيت فيه فلما
صرت في غيره بكيت عليه
تحيَّة لك.. ولشهرزاد نهارك التي أنهت حوارها.. أو حديثها بهذا المقطع الأخير من القصيدة:
إلى هاهنا أمسكت شهرزاد
وصاح على السور ديك التتار..
ونحن معها نمسك الحديث معاً.. على وقع أقدام التتار الجدد القادمين إلينا من الشرق ومن الشمال.. وقانا الله كيدهم. وحمى وطننا الكبير والصغير مما يدبّر له من مؤامرات.. ومؤتمرات تغيظ الصديق وترضي العدا..
انتهت الرحلة.. وبقيت المرحلة مفتوحة إذا كان في العمر بقية.
الرياض: ص ب 231185
الرمز: 11321 فاكس: 2053338
|
|
|
|
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى
chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى
admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved
|