قراءة في (قارورة) يوسف المحيميد حين تكون الذات مقهورة«2»
|
د. أحمد صبرة
(التيمة) الأساسية في الرواية هي عن منيرة الساهي الإخصائية التي تكتب زاوية أسبوعية في صحيفة يومية، وقعت في شراك جندي مراسل اسمه حسن العاصي يعمل عند أخيها الضابط، فقد أراد أن ينتقم من أخيها بعد أن لكزه -هذا الأخير- في صدره بسبب سؤاله عن مدى قرابته للكاتبة منيرة الساهي، انتهز فرصة سفر أخيها في بعثة، فتودد إليها بعد أن أوهمها أنه رائد في الجيش واسمه (علي الدحال)، أغرقها بمديحه لكتاباتها، وإعجابه بأفكارها، وانتهى بهما المطاف إلى عقد القران، ثم تحديد ميعاد الزواج، وفي ليلة الزواج اكتشف أحد أقربائها أمره، فانفض الحفل دون دخول، ثم تحول الأمر بينهما إلى المحكمة التي قررت بعد مداولات كثيرة أن تفض عقد النكاح بينهما لتسترد منيرة الساهي حريتها.
السؤال المهم هنا: لماذا لم يتحدث يوسف المحيميد عن منيرة؟ لماذا جعلها في كثير من أجزاء الرواية تتحدث عن نفسها؟ للإجابة عن ذلك لا بد أن توضع الرواية في سياقها المحلي برغم أن الرواية منشورة في بيروت، وهي لذلك متاحة لكثير من قراء العربية، لكن توجه الرواية الأساسي نحو سياقها المحلي الذي هو المجتمع السعودي المحافظ، وهو لذلك لا يقبل أن تكتب امرأة عن ذاتها إلا في نطاقات ضيقة جداً، ثم إنه على استعداد أن يماهي بين الذات المكتوبة والذات الحقيقية حتى داخل الأعمال التخييلية، وهو اتجاه موجود حتى في المجتمعات الغربية، وتلجأ بعض الكاتبات -من ثم- إلى استخدام حيل روائية شديدة التعقيد والالتواء كي تتجاوز مشكلة التماهي مثلما تفعل رجاء عالم في كثير من كتاباتها، لكن يوسف المحيميد يريد أن يكتب عن المرأة، أن يكتب عنها بلا التواء ولا لجوء إلى حيل، أن يكشف عن المخبوء فيها، ويعرض هذا المخبوء دون مواربات، وفي لغة صادمة في كثير من المواضع، لا يوفر له ضمير الغائب هذه الإمكانية برغم غناه وقدراته اللا محدودة على الولوج إلى كل المناطق والمستويات، ضمير المتكلم هو الذي يحقق له هذه الإمكانية، لكن المشكلة أن المؤلف رجل والسارد بضمير المتكلم امرأة، أي أن الذات الحقيقية ذكر، والذات التخييلية أنثى، هنا فكرة لا بد من تجاوزها عن العلاقة بين الذات الحقيقية الذكر والذات التخييلية الأنثى، لأن أصحاب فكرة التماهي لهم كلام كثير غير مقنع في ذلك( ).
ماذا عن منيرة الساهي في (القارورة)؟ إذا أردنا أن نطبق مفاهيم الذات كما وردت في الجزء النظري على ذات منيرة، فإن هناك أفكاراً مفيدة يمكن استخدامها هنا: فكرة هيجل عن (الرغبة في اعتراف الآخرين بنا) وما يتفرع عنها، وفكرة لاكان عن حالة النقص التي يشعر بها الشخص، والتي تتبلور منذ مرحلة المرآة في سنه المبكرة وسعيه إلى الكمال بقية حياته لتعويض هذا النقص، وفكرته كذلك عن الآخر وعلاقة الذات به، وفكرة جيرجن عن أن الذات تتشكل من خلال الممارسات الاجتماعية، ومن ثم يبدو للمؤسسات التي يبنيها المجتمع تأثير واضح على الذات، وهناك أخيراً فكرة الذات بوصفها مركزاً للثقل السردي، ومن أجل تحقيق ذلك، هناك في الرواية ثلاث دوائر مهمة تواجه منيرة الساهي، وهي دوائر متداخلة ومتشابكة بحيث لا يستطيع القارئ أن يقرر أي منها أكثر تأثيراً من الآخر، هذه الدوائر هي:
1- المدينة ومؤسساتها الاجتماعية.
2- الأسرة.
3- الآخر - الرجل أو علي الدحال.
ليست هذه الدوائر كل شيء في الرواية، هناك أيضاً دائرة أخرى مهمة هي منيرة نفسها: كيف تواجه منيرة نفسها، وهناك أيضاً القارئ الذي يمارس دوراً ما في تكوين ذات منيرة، لكن هاتين الدائرتين منبثتان في خلال الدوائر الثلاث الأخرى، وسيأتي الحديث عنهما في أثناء التحليل.
المدينة ومؤسساتها الاجتماعية
كيف يمكن معالجة موضوع المدينة ومؤسساتها الاجتماعية في مدى تأثيرها على الذات؟ أو كيف تتشكل الذات من خلال الممارسات الاجتماعية كما يقول بذلك جيرجن؟ في (القارورة) تحضر الرياض حضوراً واضحاً بأسماء شوارعها الشهيرة ومطاعمها ومحلاتها التجارية، لكن هذا الحضور الواضح يقابله خفوت لافت للنظر للمؤسسات الاجتماعية في الجانب الآخر، ربما فرضت (التيمة) الأساسية في الرواية ذلك، لكن هذا ليس إلا سبباً واحداً لهذا الخفوت، هناك سبب آخر سيتضح بعد ذلك.
في الفقرة الاستهلالية من الفصل الخامس والعشرين يبدأ السارد حديثه هكذا: كانت البيوت في المدينة يحفها الهدوء والطمأنينة، وتحلق فوق سطوحها طيور التقوى، وعلى سواريها تخفق رايات اليقين، بينما يحفر الخوف والرعب أعماقها، ويسف العذاب هواءه فوق جدرانها الأسمنتية، وينام الشك خالداً في عتمة دهاليزها، كانت صناديق الدسائس ترقد في الأقبية والمخازن، بينما تنضب على أبواب البيوت مصابيح الطهر والصفاء( ) هذه صورة لمدينة مرعبة، مدينة تعاني من ازدواجية ظاهرها هدوء وطمأنينة وتقوى ويقين، وباطنها خوف ورعب وعذاب وشك ودسائس، لكن الجانبين هنا لا يمكن أن يتعايشا: لا يمكن أن تتعايش الطمأنينة مع الخوف والرعب، ولا اليقين مع الشك، ولا التقوى مع العذاب، أن أحدهما ينفي الآخر، فإذا وجد الاثنان فأحدهما حقيقي والآخر زائف، وفي هذه الحالة فإن الحقيقي هو الباطن والزائف هو الظاهر.
الصوت هنا ليس صوت منيرة، بل صوت السارد الغائب المساند لمنيرة كما سنعرف بعد ذلك، والصورة التي يرسمها صورة استعارية، لا يمكن أن نسأله هنا: من أين لك بهذه المعرفة الكلية؟ كيف استطعت أن تلخص المدينة بهذه الصورة؟ وما الحيثيات التي استندت عليها في التأكيد على ازدواجية المدينة؟ يبدو الصوت هنا والرأي كأنه آتٍ من خارج العالم الروائي، لكن داخل هذا العالم ما يؤكد هذه الازدواجية: علي الدحال اسم حبيب منيرة الظاهر، وحسن العاصي اسمه الحقيقي الذي لم يظهر إلا آخرا، وبندر اسم حبيب فاطمة الحساوية الظاهر، ومعيض اسمه الحقيقي، وعلى مستوى السلوك تتخيل منيرة أن أخاها صالحاً ربما يفتخر بها أمام زملائه في لندن إذا شاركت في مظاهرة النساء اللاتي قدن السيارات، بينما سيضربها إذا عاد إلى الرياض وغير ذلك. ولأن الازدواجية هي التي تسكن المدينة، فكل ما يدار في هذا البلد الغريب هو تمثيليات وسيناريوهات )، وعلى الرغم من إلحاح السارد على أن هناك في المدينة خبازين أفغاناً وعمالاً باكستانيين وخادمات إندونيسيات وفلبينيات ومستخدمين مصريين ومطاعم لبنانية ومحلات للحلوى الإيطالية وجنوداً أمريكيين ومديرة مدرسة سورية، على الرغم من أن كل هذا الحشد من الجنسيات يعطي انطباعاً بأن المدينة كوزموبولوتية، وهي -من ثم- أكثر انفتاحاً في عاداتها وتقاليدها وتقبلها للغرباء، وأكثر استواء في صحتها النفسية، فإننا نجد في الرواية مواضع تبدو فيها وطأة العادات المحلية على سكانها، وانفصالهم عن حشد الجنسيات الكثيرة الذين يعيشون بين ظهرانيهم.
الأسرة
أكثر المؤسسات الاجتماعية أهمية وتأثيراً على الذات، ولذلك وجب إفراد الحديث عنها هنا، لقد اختار يوسف المحيميد أن تنتمي منيرة إلى أسرة من الطبقة المتوسطة في مجتمع الرياض، وهي متوسطة بحجم الثراء الذي تتمتع به، وليس بالقيم التي تعتنقها، ثم إن وسطية الثراء لديها وسطية نسبية، فأسرة لديها فيلا، لكل فرد فيها حجرته الخاصة وحمامه، وربما سيارته، حديقة في هذه الفيلا، وخادمة وربما أكثر، أسرة ربما تكون من الطبقة الغنية في مجتمع آخر.
تتكون أسرة منيرة من أب وأم وأخوة يمثل كل فرد فيهم طيفاً من أطياف مجتمع الرياض، فالأم ربة بيت، والأب تاجر صغير، والأخ الأكبر ضابط في الجيش، والذي يليه شاب متدين مر بتحولات درامية، والأخ الأصغر شاب لاهٍ، والأخت الكبرى متزوجة، والأخت الصغرى منغمسة في الموسيقى والرقص، ثم منيرة واسطة العقد.
في سياق الحكي لا يظهر أفراد أسرة منيرة بأنفسهم، بل يظهرون من خلال منيرة نفسها، حتى في المرات القليلة التي ظهر فيها أخوها المتدين بمفرده، فإنه ظهر من خلال هذا السارد الغائب المتواطئ مع منيرة، تعتقل منيرة أفراد أسرتها فلا تسمح لهم بالحديث إلا ما تريد أن تعرضه في السرد بغية كسب التعاطف، أن منيرة تريد منّا أن نرى أسرتها مثلما تراهم هي، لكن اللغة السردية لها قوانينها الخاصة، ولها وحشيتها المتمردة، فقد كان رد فعل من قرؤوا الرواية عنيفاً، وبدلاً من أن يتعاطفوا معها انقلبوا ضدها، ان غياب الحوار بين أفراد الأسرة - إلا قليلاً - أمر لافت للنظر، فإضافة إلى أنه قد جعلنا لا نرى الأسرة إلا من خلال منيرة، فإن دلالاته الاجتماعية في محيط الأسرة كانت كبيرة جداً.
كيف ترى منيرة أفراد أسرتها؟ وكيف تشكلت ذاتها في نطاقهم؟ هذان هما السؤالان الأساسيان اللذان سيعنى بهما البحث في هذا الجزء، فيما يخص السؤال الأول نجد أن أسرة منيرة تحتل مساحة كبيرة من الحكي، وهي تتحدث كثيراً عن أفراد أسرتها، وتبدي موقفاً واضحاً من بعضهم، فأبوها تحبه جداً وهي تراه ملاذها وعزاءها الوحيد ( )، لكنها ترسم له صورة سلبية، فهو لا يبالي بشيء، ولا يتدخل في شيء لا يخصه، ولا يعترض على شيء، ولا يناقش في شيء، ولا يشك في نوايا الناس، ولا يعجبه كلام محمد وسعد، لكنه لا يعارضهما ( ) برغم ذلك فقد ساندها أبوها ضد أسرته وقبيلته حين أرادت أن تكتب في الصحافة باسمها الصريح ( ) أما أمها فلا تظهر في الرواية إلا مرتبطة بوصاياها لمنيرة، وتحذيرها من الرجال الذكور، وأن تحترس من الرغباء، وأن تنكفئ إلى داخلها، وأن تعرف ما يحبه الرجل في المرأة حتى تنفذه، وتأكيدها على أن المرأة خلقت من ضلع أعوج، وهي ناقصة عقل ودين ( ) ويظهر أخوها محمد ذا سطوة داخل البيت، وتفرد له الرواية مساحة كبيرة من السرد: فصلين تتحدث فيهما عن تحولاته وذهابه إلى أفغانستان، ثم عودته إلى الرياض متطرفاً في أفكاره عنيفاً في سلوكه مستغلاً حاجات الآخرين ( ) حتى ان أباه يخشاه ولا يعارضه في شيء، يبدو في سلوكه داخل البيت أنه صاحب الكلمة الأكثر تأثيراً في الأسرة.
لا يبدو واضحاً من يضبط إيقاع هذه الأسرة، من يقرر أمورها المصيرية؟ يعيش أفرادها كل منهم معزولاً عن الآخر، لا يلتقيان في جلسات عائلية إلا قليلاً، لكن الأصل أن كل واحد منهم متقوقع على ذاته، وإذا كان الرجال في الأسرة يستطيعون أن يقرروا لأنفسهم ما يريدون، فإن النساء فيها لا يستطعن ذلك، أمورهن معلقة بأيدي الرجال، هكذا علمتها أمها أن تخضع، ولقد خضعت منيرة ظاهراً، وانسحبت إلى غرفتها، وانعزلت لتشكل ذاتها من خلال هذه العزلة.
|
|
|
|
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى
chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى
admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved
|