خطاب الأنا العربية بين التقليل والتضخيم (قراءة في وعي الشخصية العربية) «6»
|
سهام القحطاني
إن مفهوم الهوية في وعي الشخصية العربية هو مفهوم مستحدث، نشأ مع خروج العرب من منظومة الخلافة الإسلامية؛ ولذلك تعددت مصادر انتمائها ما بين الانتماء اللغوي والتاريخي والديني والثقافي والعشائري، والمكاني، والفكري؛ وهكذا تشتت مصدر انتماء دلالة الهوية الذي أرسى الإسلام قاعدته، والتي تعتمد على دلالات التغير الجذري في المجتمع العربي في ضوء الإسلام، وفي تطهير وعي الشخصية من أهم عقيدة لديهم عقيدة العصبية القبلية، وتذويب فروق العصبة والجنس ليحلّ محلها الإسلام.
لقد استطاع الإسلام أن يجتث عقيدة العصبية من داخل وعي الشخصية العربية، ويؤسس محلها عقيدة الإسلام، وترتب على هذا التأسيس الجديد، ثلاثة أمور: أولها: تغير تعريف هوية الشخصية العربية، وفق مؤسسات الهوية الجديدة، وأصبحت تسمى المسلمة، المؤمنة، وقد ثبّت دعائم هذا التغير اللفظي للهوية، الخطاب القرآني الذي بنى خطابه بنداء المؤمنين والمسلمين. ويكاد القرآن يخلو من لفظ التعريف القديم للشخصية العربية قبل الإسلام، وحتى لفظ الأعراب الوارد في القرآن ما جاء كقيمة استعلائية بل ليبين بعض مفاسد نفس وضمير وضعف هذه الشخصية. والأمر الثاني تأكيد مبدأ الإسلام على استعلاء قيمة العقيدة فوق أي موجودات أخرى. والأمر الثالث، وهو الأهم، تثبيت (جوهر العزة) في وعي الشخصية المسلمة. إن تثبيت هذا الجوهر ضمن مؤسسات الهوية الجديدة، كان يهدف إلى تقرير مصدر قيمة التقويم، وتقرير قيمة قوة مصدر الانتماء؛ قال تعالى: {مَن كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا} (فاطر - 10).
إن التجمهر للالتفاف حول قيمة الجماعة، كإحدى نتائج الهوية الجديدة لوعي الشخصية في الإسلام، أسهم في تغيير استراتيجية الخطاب الثقافي لذلك الوعي، فتراجع الشعر، إلا فيما يخدم تلك القيمة الجمعويّة، وخاصة بعد نزول الآية التي تعرض خاصية (الكذب الفني) في الشعر، والإسلام في هذه الآية لم يحرّم الشعر، بل أراد أن يربطه بالواقع الاجتماعي وبالقيم الجديدة التي تبعد المسلم عن الظواهر الصوتية التي ألفها في الشعر فخره ومدحه وهجائه، وتقربه من واقع التغيير للسلوك الجماعي؛ فالشعر - خارج إطار الهدف العملي - مغيِّب من مغيِّبات التكيّف مع الواقع الاجتماعي، وهذا بدوره يسهم في تكوين عازل عاطفي بين القول والسلوك وهو ما عبّر عنه القرآن (يقولون ما لا يفعلون). إن هذا التناقض بين القول والسلوك هو أزمة العمل الإبداعي، الذي تجاوزه فيما بعد المذهب الواقعي وقانون الالتزام في الأدب الحديث، لكن القرآن يجمع مع المقصد العام لقضية الالتزام في الإبداع، المقصد الخاص، أي الالتزام الخاص من قبل وعي الشخصية العربية الثقافية. والوقوع في محذور التناقض أنتج عدم التطابق بين حدّ التلاؤم بين وعي الشخصية العربية الثقافي ووعي الشخصية العربية الشعبي، وهو غياب ما زال مستمراً، ومطابقة ما زالت حدّ التلاؤم بين الطرفين أيضاً غائبة.
أقول لم يُعرّف مفهوم الهوية في وعي الشخصية العربية قبل خروج العرب من منظومة الخلافة الإسلامية، لكن دلالتها كانت حاضرة في ذلك الوعي ضمن ثنائية (مسلم وكافر)، وحتى في عز ظاهرة الشعوبية لم تتحرك هذه الدلالة من مكانها. وفي أشد حالات التوتر السياسي- من انقسام الدولة العباسية إلى دويلات وشيوع المذهب الشيعي والحروب الصليبية وحروب التتار - لم تتحرك تلك الدلالة من مكانها أيضاً، وهذا يعني أن مسوغ الأزمة لا يعتبر مسوغاً رئيساً في نشأة الهوية العربية كمفهوم قومي، كما تذهب إلى ذلك بعض النخب الثقافية، أو هكذا أظن. وهذا قد يؤيد لي - على الأقل - فكرة أن (القومية العربية صناعة استعمارية) وهي فكرة قد يستهجنها ويرفضها الكثير ممن يكفرون بنظرية المؤامرة.
إن انتقال وعي الشخصية العربية المفاجئ من القيمة الشاملة للهوية إلى التقدير الجزئي لها، قسم ذلك الوعي إلى نصفين؛ قيمة عليا تمثلها الثقافة التاريخية بزخرفها وهالاتها وبطولاتها، قيمة تحولت تدريجياً إلى رمز، والنصف الآخر كان يمثله واقع ذلك الوعي بانكساراته وهزائمه وضعفه. ولعل هذا التقسيم هو وسيلة من الوسائل الدفاعية النفسية الذي يهرب وعي الشخصية العربية من خلالها من تحليل أسباب انكساراته وضعفه، فالمقارنة المحسومة - دائماً - لمصلحة القيمة العليا للثقافة التاريخية، إضافة إلى أنها وسيلة دفاعية، فهي تحقق أيضاً لذلك الوعي مقدار الإزاحة التي ترطّب الضغوط المسببة لانكساراته وتخلفه بين الأمم؛ لذا تتضمن تلك الإزاحة التذكير بالوجود الطارئ للحالة غير الثابتة، وهذا التصور الذي ينتجه منهج الإزاحة استطاع أن يؤسس وهم القيمة الاستعلائية داخل وعي الشخصية العربية بأنها خير الأمم وأفضلها، وأنها شعب الله المختار لخلافة الأرض وأن الغلبة لها، وهكذا أعاقت قيمة الاستعلاء داخل وعي الشخصية العربية دورها التنموي والحضاري والتنافسي بين الأمم في العصر الحديث.
أنا لا أنكر فرضية قيمة الاستعلاء؛ لأنها قيمة مؤكدة في القرآن الكريم؛ قال تعالى: {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ}. إن تحقيق قيمة الاستعلاء - كما أوردها القرآن - متعلقة بالأمة، والأمة ليست بالضرورة أن تكون عربية، فتكوينها يتمّ بناءً على توافر المنهج الإصلاحي (الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)، وليس من حق وعي الشخصية العربية تلخيص تلك القيمة كتاريخ منسوب لها؛ لأن توافر القيمة ها هنا مرهون بالمنهج الإصلاحي لا العرق والجنس.
ولا شك أن النخب الثقافية قد أسهمت في شحن هذا التشنّج فيما يتعلق بالقيمة المتسامية للشخصية التاريخية بوعيها وإنجازها وبطولاتها، وبصرف النظر عن قصديّة التحفيز وإشارات التعزيز الذي هدفت إليه تلك النخب من إحياء وعي الشخصية التاريخية وإرجاعها إلى نقطة الضوء؛ فهي في جميع حالاتها عكست المقصد، وبدلاً من تحويل الوعي التاريخي إلى دافع محرك للأمام، أصبح دافعاً محركاً إلى الخلف ثم الخلف ثم الخلف، واستمر التراجع إلى الوراء بقصد التقدّم للأمام! ولم تحقق المقارنة بين الوعي التاريخي والوعي الواقعي ما ترجوه النخب الثقافية، بل زادت سماكة التسوير حول محيط وعي الشخصية التاريخية حتى خنق وعي الشخصية الواقعي نهاية الأمر، وكبّل بالإحباط والسلبية وفقدان الثقة بذاته، وكان هذا أمراً طبعياً، نتيجة رؤية الأمور من الخلف. ولعلي أعرض هنا شاهداً لدور النخب الثقافية في شحن وعي الشخصية العربية الواقعي بالقيمة المتسامية لوعي الشخصية التاريخية من خلال نص (وقفة على طلل) للشاعر محمود غنيم:
سل المعالِي عَنَّا إننا عربٌ
شِعارُنا المجدُ يهـوانا ونهواه
هي العروبةُ لفظٌ إن نطقتَ بهِ
فالشرقُ والضادُ والإسلامُ معناهُ
استرشد الغربُ بالماضي!! فأرشَدَهُ
ونحنُ كان لنا ماضٍ نسِيناه
بالله سَلْ خَلْفَ بحرِ الرومِ عن!! عَرَبٍ
بالأمس كانوا هنا ما بالُهُمْ!! تاهوا
ماضٍ نعيشُ على أنقاضِهِ أُمماً
ونستمدُ القُوَى من وحيِ!! ذِكراه
seham_h_a@hotmail.com
|
|
|
|
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى
chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى
admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved
|