وعشتُ في حياتهم خالد المالك صانع رؤساء التحرير
|
عبد الله الماجد
كلما شاهدته، أو طاف بخيالي، ظهرت أمامي صورة النخلة النجدية الباسقة، وهي تجاهد في أن تظل باسقة، حاملة في أعاليها الجنى تحتضنه سعفاتها المخضوضرة، على رغم الظروف المناخية القاسية أحياناً، تجود بالرطب والتمر في المواسم، وعلى امتداد مواسم العام تظل سامقة، تمنح عطاءاتها الأخرى.
في بداية التسعينيات الهجرية، أوائل السبعينيات الميلادية، عرفت (خالد المالك). كنت صحفياً مبتدئاً منتسباً من منازلهم، أُجرب حظي في وجلٍ وخوفٍ. لكن هاجس التوقِ كان يدفعني بجرأة، فبمجرد أن أذهب كل مساء إلى حي (المرقب) حيث (مطابع الرياض) التي تطبع معظم الصحف التي تصدر في الرياض آنذاك، كان ذلك يجعلني أحس أنني أصبحت صحفياً، وأن أعرف معظم الأسماء المعروفة، وأعرف ماذا يعملون، وأحيانًا أناقشهم على استحياء، فهذا وحده كان يشكل جواز مرور إلى هذا البلاط. وهو ما أتاحه لي بعد ذلك الأستاذ (محمد الشدي) في (مجلة اليمامة).
كان خالد المالك في ذلك الوقت، اسماً لامعاً من خلال إشرافه على القسم الرياضي بصحيفة (الجزيرة) الأسبوعية. ونحن الذين كنا نكتب التحقيقات الصحفية، وبعد ذلك في الصفحات الأدبية، أقل لمعاناً من محرري الصفحات الرياضية. وكان خالد المالك بحاسته الصحفية، يقيم علاقات عفوية مع عدد من الصحفيين، ولا أتذكر أن خصومة قامت بينه وبين أحد من زملائه، وحينما أصبح مديراً لتحرير الجزيرة ثم رئيساً لتحريرها، جمع حواليه كل الأطياف الصحفية من الصحف الأخرى، لم يكن رئيساً لحزب، وإنما كان صاحب خيمة مضيافة، تستقطب القادمين إليها، وتستضيفهم، أصبحت الجزيرة هي صحيفة المحررين والكتاب في الصحف الأخرى، ولعل فيما تنشره الجزيرة الآن من إعادة صفحاتها القديمة، شاهد على ذلك، وما تزال حتى كتابة هذه السطور تفتح صفحاتها لأطياف من الكتاب والصحفيين يمثلون أجيالاً متعاقبة، وهي بذلك تجسد تواصل الأجيال.
وحينما عاد إلى الجزيرة بعد (استراحة المحارب)، كان الرصيد الذي بناه باقياً ينمو ويتزايد.
وسرّ ذلك هو عفويته وصدقه ومحبته لمن عرف أنهم يستحقون الحب والتواصل.
حتى في حرفيته الصحفية السمة الأساسية الدّالة عليه هي العفوية الصادقة، ليست لديه أقلام ملونة، بل يكتب دون تكلف ولا تَصنُّع، ولا يتجمل فيما يكتب، فلديه قناعة بأنه ليس بحاجة إلى الكذب.
بهذه الصيرورة، أصبح - دون أن يخطط لذلك - قطباً محورياً يشد إليه المواهب الصحفية الناشئة والمتمرسة، صحفيون يتركون صحفهم ويلتحقون بالعمل معه، دون إغراءات، الإغراء الأمثل هو هذه الروح التي جُبل عليها، وهي جزء مهم من شخصيته، فهو يجمع بين عفوية البساطة غير المفتعلة، والذكاء الاجتماعي المفرط في حساسيته للأمور، فما أسرع أن يثور هذا الإنسان الهادئ المتزن المتصالح مع الظروف الاجتماعية، عندما يُحس باقتحام نواياه على غير ما يضمر.
استثارته لا تأتي من مصدرية خارجية، بل من استشعار نفسي مصادره ما يطرحه أمامه من وقائع، يستمع كثيراً ويغربل ما يسمعه عن خبرة سابقة بمصادر الأقاويل وبالمحيطين به.
لم تكن مفاجأة لي، حينما دعاني إلى (التواصل) بالكتابة مع (الجزيرة)، مع إحساسه ومعرفته أن علاقتي بجريدة (الرياض) - التي كنت أعمل فيها - ليس فيها ما يمنعني من التواصل مع القراء بالكتابة فيها، وهو ما كنت أفعله بين حين وآخر، حتى بعد أن أصبحت بعيداً عن العمل اليومي فيها.
وليس هناك مواقف جاهزة تمنع هذا التواصل، فما تزال علاقتي على المستوى الشخصي بالجميع قائمة، وليس من سبب يمنعها، وكان خالد المالك يعرف كل ذلك بحدسه وحسه الاجتماعي، وتلك (الصيرورة) التي ألمحت إليها، يتواصل مع من يريد، رصيده تلك العلاقات التي بناها بطبعه التلقائي المحبب مع الجميع. إنه رصيد إنساني، قبل أن يكون رصيداً نفعياً.
ما ذكرته فيما يتعلق بي شخصياً، كان الهدف منه إيضاح وتعليل ما كنت أريد إيضاحه في تحليل شخصيته وإبراز جوانبها.
فليس غريباً أن يكون هو (صانع رؤساء التحرير) الصحفيين الذين أصبحوا رؤساء تحرير ممن عملوا مع خالد المالك، كانت لديهم جاهزيتهم لأن يصبحوا متميزين في ظل قيادة تحسن صناعة القادة دون حجر على المواهب.
وهكذا أصبح أربعة ممن عملوا مع خالد المالك - على ما أتذكر - رؤساء تحرير، استحقوا التميز بدأبهم، وما زالوا يتذكرون أن الجزيرة، هي بيتهم الذي تخرجوا فيه إلى ميادين القيادة.
أما على المستوى المهني، فقد صقلته التجربة والتمرس، في المهنة التي تنهض عادة على موهبة كامنة في التكوين العقلي.
وكثير من الأسماء اللامعة في عالم الصحافة - عربية وعالمية - أصحاب موهبة شحذتها التجربة، فلمعت وتميزت، فهو يتميز بحسٍّ عالٍ بالمهنة الصحفية، وقد أثمر هذا الحس عن عديد من الإنجازات الصحفية التطويرية، تمثله تلك الإصدارات الصحفية المواكبة لعصر صحافة اليوم.
وهو في هذه الناحية منافس، لا يمل المنافسة المهنية، ففي ظل هذه المنافسة وأجوائها، يتطور الأداء العملي، وتكون المنافسة باعثاً على التجديد والتطوير.
وهو ما يمكن تلمسه على الواقع، إذ أصدرت (الجزيرة) عدداً من الإصدارات المتخصصة كمجلات منفصلة عن العدد اليومي وتوزع معه.
وما تزال أبواب المستقبل مفتوحة، لتنطلق منها أعمال أخرى، ونجاحات تنافسية مهمة.
في كل ما يقدمه خالد المالك من إنجازات صحفية، كان يقف خلف الستار، يتوارى في اعتزاز وفي وجل المبدع، وإن ظهر، فيكون ظهوره كالطيف (كقوس قزح) مبشراً بالغيث..
صُنّاع النجوم دائماً يقفون خلف الستار، ويصفقون لنجاحاتهم دون أن يراهم أحد.
|
|
|
|
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى
chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى
admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved
|