عبد الكريم الجهيمان.. حكمة المثل ومغزى الأسطورة
|
أشد ما خسرت، عمر من حياتي تسرب، دون أن أنعم بهذا الدفء الإنساني المتجدد الذي يمنحه، بشكل مباشر، حينما تتلمس يداك يديه، وحينما تلتقي عيناك ببحر عينيه، وحينما تطبع قبلة على جبينه، على هامة عقله، وحينما تضم هذا الجسد الناحل الذي لم تنهكه التسعون، ولكنها شكلت منه ذلك الطائر الاسطوري النادر، حينما تنعم بذلك وأكثر منه، تشعر أن كل ما تعلمته منه وقرأت عنه، وعاش في حياتك عبر جهاده وكفاحه، كأمثولة نادرة، كل ذلك إذا اكتمل بقربك الشخصي منه، اكتملت لك الحسنيان: النظرية ومبدعها، الفعل وصاحبه.
لقد أتاح لي الصديق «أبو يعرب محمد القشعمي» أمين عام رابطتنا الثقافية وهو الذي أخلص حياته الثقافية والروحية لأستاذه وصديقه الذي كان يعامله على هذا النحو كصديق وابن، وأصدر عدداً من الأعمال عن استاذه، كما كان وراء ظهور أعماله ومؤلفاته في طبعات حديثة، وهو المخلص الملتزم دائماً بزيارته بشكل دائم، بل واصطحابه في رحلاته إلى الخارج والداخل أتاح لي هذا الصديق كما أتاح لغيري أن أزوره في يوم الاثنين، كلما كان ذلك متاحاً لي، وكنت أقول لصديقي: «أبا يعرب» هذا «يوم القمر» بتعبير أهل اللاتين، لكن قمة تلك اللقاءات ونشوتها، حينما أتاح لي «أبو يعرب» مرة أخرى أن ألتقي «أبا سهيل» على مدى أسبوع في ليال «قاهرية» كانت في ليال منها تتسع فتضم نخبة من أهل الفكر والقلم، يتجمعون في فنائه وفيئه، في تلك اللقاءات، اقتربت بشكل مباشر من «عبد الكريم الجهيمان» تاريخ أجيال حي وكفاح، ريادة في ميادين التعليم والصحافة. ثنائية متلازمة. كل منهما يفضي إلى هدف واحد.. التربية والتعليم، وهذا هو عنوان مشروعه الفكري الذي لم يتغير، ظل مخلصاً له حتى الآن، لم تنهزم ارادة الفعل في سبيل تحقيق هدفه، رغم ما يعترضه من مصاعب تتجاوز كل حدود.
أما مشروعه الفكري المؤسسي، فهو جمع تراث هذه الأمة الشعبي، الذي بدأ في وقت مبكر بجميع الأمثال الشعبية في قلب الجزيرة العربية في جزأين (1383هـ/ 1963م) ما لبث أن أصبح موسوعة تضم عشرة أجزاء، ثم أتبعه بعمل ريادي، جمع فيه القصص الشعبية أو ما يسمى في نجد «بالسبحونة» وهي حكايات كانت تتردد على ألسنة الأجداد يحكونها للأحفاد، تراث تلوكه ألسنة البشر، أصبح تراثاً من افراز الوجدان الإنساني العام، ومنذ «ألف ليلة وليلة» لم يسجل عمل بمثل هذا الحجم، على مستوى ثقافات الشعوب، بل إن «الأساطير الشعبية من قلب الجزيرة العربية» يفوق ما سجلته حكايات «شهرزاد» حجماً . وقد تأطر مشروع «عبد الكريم الجهيمان» الثقافي بعديد من الكتب التي هي سجل حي لكفاحه وجهاده الفكري من أجل نهضة هذه الأمة. وهو حري بأن ينشأ مركز علمي لدراسات المنتج الثقافي الفلكلوري في احدى جامعاتنا باسمه، وأن يتم التخطيط لتوجيه الأبحاث والرسائل العلمية الجامعية لدراسة المادة الثرية التي جمعها في رسائل للماجستير والدكتوراة.
ولأن ما أكتبه تحت هذا العنوان، لا يؤرخ لمن أكتب عنهم، وإنما هو بوح لصدى تأثيرهم في نفسي، فسوف أتوقف عند محطتين هامتين في بداية حياة «عبد الكريم الجهيمان»، ومن ثم سوف ألحق ذلك بمواقف حية لامعة، تفسر وتنقل تلك المواقف في المحطتين السابقتين، من مجرد التنظير، إلى مجال الفعل. فمع بداية حياته العملية التي بدأت بالتعليم مدرساً بمكة المكرمة لم يكن مهادناً في سبيل الاصلاح، لم يكن ذلك السالب الباهت، كانت «شهوة الاصلاح» تستعر في ضلوعه، وتنبض حية في عروقه، فها هو في بداية حياته يعلن رأيه في طريقة تعليم المواد الدراسية التقليدية، في الخمسينيات الهجرية من القرن الماضي، مما ألحق به الأذى والعنت، فاحتجز لمدة أسبوع في السجن، ثم النقل، ولم تخب جذوة الدعوة إلى الاصلاح بداخله، فها هي تتقد مرة أخرى حينما نشر مقالاً في صحيفة «أخبار الظهران» التي أنشأها عام 1374هـ وترأس تحريرها، لأحد الكتاب يطالب فيه كاتبه بتعليم البنات (1375هـ) وربما تكون هذه الدعوة من أوائل الدعوات لتعليم المرأة. ثم أتبعه بمقال لكاتب آخر يعلق فيه ويؤيد تلك الدعوة، في أحد اعداد سنة 1376هـ ثم ها هو مرة أخرى يوقف عن العمل، وتوقف الصحيفة عن الصدور، ويوقف رئيس تحريرها. وسوف ننظر فيما قام به «عبد الكريم الجهيمان» بعد سنوات من دعوته إلى اصلاح التعليم، فها هو يسخر «مدخراته المالية» ويمنحها للمساهمة في تفعيل دور التعليم.
يروي «أبو يعرب محمد القشعمي» راوية ومؤرخ «الجهيمان» هذه الواقعة:
«لم استغرب ما قرأته في جريدة الرياض ليوم الثلاثاء 30/3/1423هـ «وزير المعارف وجه الشكر للجهيمان مدرسة ابتدائية بالخرج تحمل اسم عبد الكريم الجهيمان» ومن الخبر المنشور يتضح أن أستاذنا عبد الكريم الجهيمان أطال الله عمره وأبقاه قد تبرع بمبلغ مليون وخمسمائة ألف ريال لمشروع مدرسة ابتدائية بالخرج.. وقال معالي وزير المعارف «.. ان هذا التبرع السخي من الأستاذ الجهيمان ينطلق من الإيمان بأهمية الاسهام في خدمة العملية التعليمية .. وأن هذه المبادرة الكريمة تدل على الوعي العميق.. والوفاء الصادق لهذا الوطن وأبنائه..».
«الأستاذ الجهيمان غني النفس والأخلاق، وليس من أصحاب الثروات فليس له دخل سوى ما يحصل عليه من قيمة كتبه، وسبق أن قال عنه الأستاذ فهد العلي العريفي في مجلة اليمامة العدد 1604 بتاريخ 2 صفر 1421هـ: «.. كان يستوفي من رواد مكتبته قيمة مشترياتهم قرشاً قرشاً. ولكنه لا يجمعها في صناديق مغلقة، أو في صرر يدفنها في الدار للعمر الطويل.. ولكن ليتبرع بها عن آخرها لعمل خيري انساني.. ولقد تبرع بالحصيلة كلها خمسمائة ألف ريال لدار المعوقين ثم أتبعها بمثلها!! وقد تساء محبوه وتلاميذه: من أين له المليون؟! وهو عزيز النفس محدود الدخل؟! قالوا: من حصيلة كتبه وكتاباته يجمعها لا لكي يثري.. ويصبح من أرباب الملايين كما يفعل البعض.. ولكن ليتبرع بها لرعاية مجتمعه وأهله..».
«وقال عنه أيضاً الدكتور حمود البدر أمين عام مجلس الشورى ووكيل جامعة الملك سعود سابقاً، انه قبل أكثر من خمسة عشر عاماً كان يأتيه بالجامعة: «.. بحثاً عن أوجه الخير بين الطلاب، حيث كان يتلمس الأشد حاجة ليغطيها أو يسهم في البحث عمن يفعل ذلك إن كان المطلوب فوق طاقته وقال: انه ترك لديه مبلغ مائتي الف ريال ليصرف منها على الطلاب الذين قد تعيقهم الحاجة للمادة عن مواصلة الدراسة».
أرأيت إنساناً يكرم نفسه بهذا القدر؟! فرغم ما حظي به من تكريم على مستويات رسمية وأهلية، فإنه لم يدع لأحد أن يكرمه، لقد كرمته أعماله وأفعاله، وهذه احدى عجائب هذا النموذج الإنساني النادر، أو ذلك «الطائر الاسطوري».
في احدى تلك الليالي «القاهرية» كان متوهجاً حاضر الذهن كعادته لمحت عيني «أبي يعرب» تتقدان وتلمعان، قرأت معانيهما، تستحثني أن أوجج حالة التوهج على نحو ما، فسألته عن حالة العرب الراهنة، فانتصب في جلسته، وقال: «كان سلمك الله، أسد الغابة، وقد رأى ثلاثة ثيران، الأول لونه أصفر، والثاني أحمر، والثالث أسود، فقال لهم اختاروا واحداً منكم لآكله، فاختار الاثنان الثور الأصفر، فأكله، وبعد ذلك بيوم عاد إليهما، وقال ان لون الثور الأحمر لا يعجبني ولونه شاذ بين لون الثيران، ولابد أن آكله فأكله، وبعد يوم وجد الثور الأسود وحيداً، فقال له الأسد انني أشمئز من اللون الأسود ولم يدعه الثور الأسود أن يكمل، فقال له: لقد أدركت مصيري منذ أن بدأت بالثور الأصفر، هذه هي الحالة سلمك الله».
ثم ضحكنا تلون ضحكاتنا حكمة المثل ومغزى الأسطورة.
|
|
|
|
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى
chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى
admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved
|