سؤال في مدار حيرة.. حكيمة الحربي
|
تخيل أنك جالس على صخرة في مواجهة البحر، وأن الموج يقفز في وجهك من آنٍ لآخر، يبللك، ويبعث فيك نشوة وسعادة مصدرهما ذلك الرزاز المتطاير على جلدك.. ما أجمل ذلك إذا مر هادئاً، باعثاً على التأمل، وما أقساه إذا ما فتح في الرأس مسارات كثيرة لأسئلة مربكة، تتشابك مع بعضها البعض لتدخل بك في دوامة عاتية تقودك في النهاية إلى مدار جديد لم تألفه من قبل.. تلك الأسئلة المربكة، الشاغلة، تطرحها الكاتبة حكيمة الحربي، في مجموعتها القصصية الأخيرة (سؤال في مدار الحيرة)، الصادرة عن دار الكنوز الأدبية بيروت 2004م، عبر أربع وعشرين قصة مكثفة تدفع الكاتبة أبطالها إلى السؤال، الذي يحتاج إلى نوعٍ من التروي في الإجابة، لأنه يبحث في داخل الذات.. وتبدأ الكاتبة حكيمة الحربي قصصها ب(نجم أفل) وكأنها تمهد الطريق أمام القارئ ليدخل مدارها وهو مستعد لاستقبال ما هو آتٍ عن بُعد: (إن جيوش الهزائم تلاحقني أينما كنت، لقد مضى قطار العمر، دار تسعاً وأربعين دورة ولم يحمل معه من ينقش اسمي فوق صفحته، ولا زهرة يطيب لي النظر فيها)، وهنا تنفتح الذات على نفسها، وتعي فجأة ما مرت به ولم تشعر بالزمن الطويل المنقضي من عمرها دون أن تحقق ما يجعل الحياة هادئة، وما يؤنس وحشتها. وفي (النظافة عنوانه) تُغرق حكيمة الحربي بطلها في بحر الشك لتدخله في مدارها المؤدي إلى الحيرة. وتتبعها بالقصة التي تحمل المجموعة عنوانها، فيأتي السؤال من الخارج ليحاصرها ويولد فيها أسئلة لا تستطيع الفكاك من أسرها:(أربكها السؤال.. ترنحت الكلمات فوق شفاهها حائرة. تلفتت يميناً وشمالاً محاولة الخلاص، استجداء ما يُخرجها من الحرج الذي وقعت فيه) وهكذا يغلب على بطلات الكاتبة الصمت تجاه الأسئلة التي تظهر فجأة، وتفتح في عقلها وذاكرتها مساراً يقودها إلى الأسئلة المحيّرة، كما في قصص (تعيين جديد)، (طوق الهزيمة)، و(دفتر وردي).. ومن أمتع قصص المجموعة تلك التي تقف فيها الكاتبة على حافة الحدث، الفاصل بين عالمين كما في قصص (أرق)، (الجسر) و (الفستان): (لا يفصل بينها وبين دخولها عالماً جديداً إلا يوم واحد فقط. تحمل نفسها بكل خلجاتها وأحلامها ومشاعرها، تقودها الخُطى إلى حيث مكان تلك الأيدي التي تحيك فستانها الأبيض، تقترب من المكان وقلبها يقفز كعصفور بلله المطر!).. وفي قصة (انكسار) يقودها السؤال النابع من تعاظم الفقد ليتركها وحيدة فوق شطآن الوحدة.. ليطل عليها (زائر الليل)، الذي يفقد طريقه، ويؤدي به ضلال الطريق إلى المعرفة، والوقوف على الحقيقة حيث مقابرأهل المدينة فتتعرض للسرقة، دون مراعاة لحرمة الموت.. فيدفعها الاختناق إلى البحث عن (شمس الحرية)، تقول: (فرحة الانطلاق ورؤية شمس الحرية أنساه تجاهل أهله، ورفاق عمره. انطلق يجري دون أن يلتفت إلى الوراء).. هكذا تنطلق حكيمة الحربي في مدارها نحو مجرة الحيرة الإنسانية، يقودها السؤال، متغلبة على (أنين الوحدة)، كأنها في (إجازة) حيث تلوح الشمس في الأفق، وتنشر الدفء والضياء، صامة أذنيها عن صوت (الخادمة) التي أتعبها السؤال، والعمل المضني، الذي لا ينتهي مداره، بل تكافأ في النهاية بشدها من شعرها..، لأن سيدتها تقف أمام (مرآة الغرور) تتأنق وتتفنن في وجهها المصطنع، دون حتى أن تلقي (كسرة خبز) لمحتاج.. تستمر قصص المجموعة في العزف على ذلك الإحساس النابع من القلب، والمنتهي في الرأس، كما في قصة (الزاوية الأخرى) حيث تخنقها العبرات، وتلتف حبال الذكريات حول ذاكرتها، لتقيدها في منطقة الماضي.. لتشعر ب (وخز الشوك)، وهي تُوقف شهقات كادت تصرخ بروح تعلقت بأشباح الماضي في قصة (أشباح الموت) فسقطت في هوة سحيقة من خلال (سراب) لتنتهي في ركن قصي، في مكان منزوٍ.. تحت شجرة واقفة بكل شموخ، صامدة في وجه الريح والمطر والرعد.. حتى وإن صرخ فيها صارخ وهو يجفف حبر حياتها، كما في قصة (قلم مكسور): (بنات العوائل لا يثرثرن في الجرائد أمام الملأ): لينهي أحلامها ويحطمها على صخر الواقع، ويدفعها لأن تكون (موظفة).. وفي النهاية يغافلها ويختفي، تاركة لها مسئولية تنظيم حياته وحياتها دون مراعاة لإنسانيتها..
إن اللغة السلسلة، التي تبني منها الكاتبة حكيمة الحربي سؤالها، في مدار حيرتها، يدفع القارئ ليتوقف كثيراً في محطات حياته المختلفة، ليكتشف أنه بحاجة إلى أن يسأل نفسه ويبحث عن إجابات تقوده إلى النجاة من عزلة ووحشة الروح.
محمد العشري
ناقد وروائي مصري
|
|
|
|
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى
chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى
admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved
|