ديوان الفتى الأسمر علي الخزيم
|
لم أشاهد الأستاذ الأديب الشاعر أحمد بن عبدالله السعد يتحسَّر على شيء أو يتألم على فقده، مثل ما رأيته في الآونة الأخيرة، يكرر الأماني بعودة ديوان شعري خطَّه بيده ويعتز به كثيراً، وهو بالنسبة له على الأقل، تحفة ثمينة يعود إليه متأمِّلاً كلَّما وجد الحنين والشوق لمضامين بثها بين دفتيه، حنين يكاد أن يعادل الحنين لسارة وسلطان حينما تنأى به المسافات في مهمات عمل .. وحيث إنّ المتهم بغياب الديوان الثمين حسب الرؤية عصابة أشرار من تلك التي تمارس السطو على الاستراحات بغياب أهلها، وهي لجهلها ولعجلتها في أمرها تكنس ما تصادفه أمامها ورقاً أو حجراً، تمراً أو جمراً، ثم حين تعود لأوكارها تبدأ في التصفية فتقذف ما يمكن أن يفيد حين بيعه في سوق المسروقات السوداء يميناً، وتقذف بما تعدّه نفايات تافهة كالديوان إيّاه شاملاً، وهذا ما يزيد الشاعر الرقيق أسى ولوعة وهو يتخيل ديوانه حبيبه ترفرف وريقاته في مرمى للنفايات بجانب حذاء قديم مقطوع أو علبة تونة فارغة حتى من رائحة الزفر بعد أن لعقها قط جائع بعد قط وقطيطات ..
أحمد السعد يردد أنّه لو كان بالإمكان إيصال صوته وحجم ندمه على ديوانه لأسماع أولئك الأشقياء لعلهم يرقون لحاله ويعيدونه دون بقية ما سلبوه، و يتكرمون بالإشارة إلى موقع مرمى النفايات الذي يحتضن كلماته المموسقة العذبه التي عجزت أن تجد لها موقعاً في آذان ووجدان البشر .. ليعيدها إلى حضنها الدافئ قلب السعد.
نعم لفت انتباهي حجم ومدى حسرته على وريقاته العتيقة المتجددة كأحاسيسه ومشاعره، كنسمات الجنادرية سويعات الفجر بين زهرة عباد الشمس والوردة الحمراء التي يقول إنّه يحبهما ويعطف عليهما، وربما ناجاهما وبثهما عطراً من توهجه ذات صباح لم يتوجَّه فيه إلى العمل حيث العيد أو خميس غائم ندي يحلو فيه الانشراح بين غرائس نخل وشدو عصفور.
ولعلِّي هنا وبهذه الخاطرة أتجاوز حدي لأتحدث عن شخص أحمد السعد الذي عاش في العلاوة من ضواحي المجمعة ولم يكن في وسط ينعم بثراء غير ثراء وكرم النفس، وأعشاب الوجه السموح .. لم يتأثر أحمد الصغير بذلك ففاق رفاقه دراسياً وساعدهم في حل الواجبات، تنقَّل في أزقة المجمع يزور زميلاً يتذاكران أو يساعد آخر على فهم درس، يعود مساءً بين ظلمة الطريق وفحيح الريح بين أغصان شجر الأثل متجهاً إلى العلاوة حيث الوالدان البسيطان الرؤومان، وقد رميا كلَّ هموم الدنيا والتقيا مع الصغار يطعمانهم خبزاً ينضج على جميرات مساء الشتاء .. أحمد السعد ذلكم الفتى البسيط في مظهره الشموخ بذهنه، عاش تلك الفترة قانعاً بواقعه متطلِّعاً للأفضل الذي قاده للرياض حيث كلية اللغة العربية بالبطحاء .. لم يأنف أن يعيش وحيداً في منزل متواضع يشاركه الأُنس قط أملح يزوره بين فينه وأخرى حتى وجد بابن القرية ألفة وصداقة وفي كنفه أمناً وفي جانبه وداعة فزادت الميانه حتى تجرأ للعبث بحفنة السُّكَّر وقليل من الشاي يدَّخرها الفتى المكافح لضيافة عزيز زائر أو زميل لا يعرف الحال المستور، صاحب الدكان في الحي يعرض عليه صفحة مشترياته الشهرية التي لا تتغير فيها القائمة ما بين التونة والشابورة، وعاشها لقمة لذيذة طالما أنّه لم يجن على أحد ولم يؤذ جاراً والكل يحبه ويطرب لحديثه أينما وجده، تخرج وسارت به الأيام فصاحب الصغار ورافق الكبار وتغنى فأطرب شعره السمَّاع عبر الإذاعة والتلفزة ونشرت له الصحف والمجلات، عمل صحفياً بين اليمامة والرياض ورحبت به بقية المطبوعات خليجية وعربية .. دواوينه متداولة تفوح (عبيراً) وعطراً يجملها (الأفق الرابع) وتضفي عليها (المجمعة) ألقا وزهواً ..
لم يتغير أحمد السعد رغم كلّ هذا المجد الذي يتأزر به نال نصيباً من الصيت والشهرة والحب من الجميع، يدخره في جوانحه ويعلم مداه لكنه لم يشهره يوماً كورقة يلعب بها أمام موقف أو لنيل مطلب لا يراه مستحقاً .. وبحجم هذا الفكر والعقل المنير والأفق الواسع لم يتنكَّر أحمد السعد لمشاهد الطفولة التي مر بها، لم يأنف من سرد كدرٍ عاشه كما يعيشه فتيان القرية، يملك شجاعة وقوة بأس في داخله يحتفظ بها لنفسه لم أشاهدها في غيره إلاّ قليلاً .. قوّته وبأسه لم تزعج الآخرين، لم تكن سلاحاً للحظة واحدة ضد إنسان، إنّها الثقة بالنفس واليقين بالله والإيمان بقدر محتوم، جعله يمنح الجميع حباً ويكسب منهم وداً .. أحمد السعد شاعر مثقف لا يضيع معك وقتاً دون أن يفيدك بحكمة أو يهبك درساً لطيفاً .. تلتقط من حديثه الفوائد حتى وإن تحدّث من خيالاته عن خيوله البيضاء الجامحة.
|
|
|
|
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى
chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى
admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved
|