شيء.. اسمه الوداع: عندما هوى النجم.. وجف المطر!؟ عبدالله عبدالرحمن الجفري
|
(1)
* تجيئني روحه الآن.. وامتداد الدنيا يتقلص، يتقلص.. وجدار الفراقُ يجسد عمراً في لحظة كأنها الزمهرير.. كأنها هذه (الحرية) التي نادى د. سمير سرحان بتكثيف أشواق فكرنا إليها حتى تشمل: حرية الرأي، وحرية البوح، وحرية الفكر.. فتكون هي: الكتاب الذي خدمه منذ أكثر من عشرين عاماً، وتكون هي الكلمة التي دافع عن حريتها ووقف حارساً لها طوال عمره.
وها هي (البرهة) الخاطفة الساحقة الماحقة تتحول إلى: قضبان للنبض وللخفق، ولكل ما أعطاه هذا (الإنسان) لوطنه، ولأهله، ولرسالته.. برهة (الموت) التي هدرت بها خبراً: كل أضلاعنا، فإذا نحن الذين اقتربنا منه، وامتزجنا ببساطته وطيبته: نراوح ما بين الحريق والابتهال!!
لنبقى نتذكر بعد رحيله: هذا الفتى القاهري السمهري الذي عاش حياته، وكان جلبابه: كتاباً يقرأه، وكتاباً يبدعه، وكتاباً ينشره.. وهو يراقص الشجن ويناغم البوح!
مجنون كان سمير سرحان.. يعب من تواشيح اللهفة لكل القيم والمبادئ، وهو يتزنر بعروبته الشامخة حتى في انكساراتها.
مجنون كان هو في: عمى النهار، وفي إبصار الليل.. يراح ما بين صرخة الزمان وفروع الأشجار وأغصانها، ورائحة الأرض السمراء وريفها.
(2)
* كما كتب د. سمير سرحان في عين شموسه المتكسرة قبل رحيله خلف الشفق، فقال: (أدركت أن المسافة بين الموت والحياة هي: مسافة الفرق بين الحلم والمستحيل، وإنني فيما سيتلو من أيامي - طالت أو قصرت - سوف أعيش دائما على هذه الحافة.. حافة الحلم، وحافة المستحيل.
والمسافة بين الحلم والمستحيل هي أيضا: ما يعيش فيه عالمنا العربي اليوم)!!
وأدركت أنا بدوري، وبامتداد سنين توحد روحي بروح سمير: إن المستحيل لم يكن هو الحلم، بل هو: أن نعيش الحلم حتى الموت، وكيف نعيشه؟!
آهـ.. الحلم!!
طالما تحادثنا، تهامسنا، تضاحكنا، توحدنا في حزننا.. كنت وسمير في أحضان ليل القاهرة ونحن ننسج من الحلم رؤية: لا نأخذ على عاتقنا ذلك (التأثر) بما كان يتسع حولنا من: تفشي الذات والذاتية ولا نتعرقل في ذلك (العقم) الذي يروج ما زال حتى الآن ويتمدد للبغض الناتج من فساد الحلم.
لم تكن الكتابة في ضمير (سمير سرحان) عبثاً، ولا مظهراً اجتماعياً ولا حتى وظيفياً.. لكنه كان حين يكتب: يصعد إلى مشارف المعاني، وبركان الحياة.. حتى كأن (الموت) في كلمته: رباط غير تقليدي بين روح ومعنى الكلمة، وبيانيتها وإبداعاتها.
آهـ.. الحلم!!
كان (سمير سرحان) يفيق من تأملاته بطريقة من يجلده ليستيقظ من ذلك الحلم.. فيكتب عبارته الحزينة الصارخة العاجزة المنكسرة:
(لقد بدأ العرب عصراً جديداً من: الاجتهاد والتفسير، لم يتجه إلى الاجتهاد في أمور العلم أو بناء الحضارة، وإنما في: أمور الجنس، وهل يجوز للمرأة إذا كان لديها كلب أن تخلع ملابسها أمامه)؟!!
* ويكتب عنه الناقد الكبير رجاء النقاش في مقال له بالأهرام دعا فيه إلى إنصافه:
(استطاع سمير سرحان أن يكسر كثيراً من الحواجز القديمة والحديثة التي كانت قائمة بين السلطة والمثقفين.. فحقق بذلك إنجازاً رائعاً، ورسم دائرة واسعة للحرية والتنوع الذين بغيرهما لا يكون هناك فكر، ولا أدب، ولا ثقافة، ولا عقول حرة، ولا ضمائر تعتز بالصدق وقول الحق كما تؤمن به وتراه)!!
آهـٍ.. الحلم عند سمير سرحان!!
كان يحدثني عن سقوط (الزعيم الزنجي مارتن لوثر كنج) قتيلاً في مدينة (ممفيس) بولاية تنسي الأمريكية وهو يدافع عن حقوق الإنسان الأسود.
كان (مارتن) يتحدث عن ركائز إنسانية يحض عليها: عصر العلم، والحضارة والتكنولوجيا وتحطيم الذرة، وارتياد الفضاء.. عصر: صرخات الحرية وإصرار الإنسان على حقوقه وعيشه الكريم وحقه في العدل!!
* فماذا عن واقع وحاضر المثقف العربي اليوم؟!
سألت سمير ذات يوم.. فأجابني: هناك حقيقة تقول: إن مجتمع المثقفين منشغل بنفسه، أو بتكثيف الإضاءة على أسماء وتعتيمها ضد أسماء.. فما زالت الشللية تسيطر!!
(3)
* ها هي أنفاسي تتكئ على جدران من الرماد، و.. شيء اسمه: الوداع في أصداء رحيل العزيز سمير.
وها نحن - جيلنا - بات يبحث عن استراحة الصمت الأبدي، منشدين موالاً يقول:
(يا جيل الليل المقبل دوماً.. من غير زمان)!!
والاستراحة لها رسوم مطبوعة على الضباب الطالع في صبح ما زال مقبلاً ولم يصل بعد.
لقد رحل صانع (الكتاب) وناشره المحامي النشط عن (المعرفة) وضرورة انتشارها، والإصرار على خطة (التنوير).. وبقيت أصداء من ترنيماته التي أنشد فيها:
(المعرفة: حزن
كلما عرفت أكثر.. حزنت أكثر!
وها أنذا أتلمس الفرح وسط كل
هذا الشجن، وهذا الحزن)!!
(4)
* ها هي الروح تتجرد من عباءتها لترسم أمامي وحشة دنياي بعد رحيل سمير سرحان!!
وها هي (مصر): تصفر فيها الريح بكل بهجتها.. فلم يبق لي (حبيب) فيها من بعده، بعد أن فقدت خصوصية لهفتي على زيارتها.. فلا شيء كان يضيء ليالي القاهرة أوسع من ضحكته!!
A_Aljifri@hotmail.com
| | |
|
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى
chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى
admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved
|