جذور جمعان الكرت
|
لم تعد زرقة البحر البهيّة والسجادة الخضراء التي ملأت جبين الجبل في سيدي بو سعيد السبب في رغبته البقاء فترة أطول.. فلم يبق على العودة إلا يومان فقط, وها هي جدائل الشمس تنثر أشعتها الذهبية على ثغر المنازل مؤكّدة انصرام يوم.. الإطلالة من على ساحة المقهى الذي يتسنم ربوة الجبل كافية لغسل الصدأ. مرّت ساعتان.. وفارس يجول ببصره في ملامح العابرين من السياح الذين يتجولون في ردهات السوق التقليدي.. ثمّة أباريق فضية تزهو بجماليات أناقتها مع خيوط الشمس.. كانت مرصوصة بشكل جذاب.
بريق أخّاذ كان يشعّ من عينيها النجلاوين.. كانت تسير بثقة متناهية أضفت على المكان هيبةً وجمالاً، سرت رعشة في مفاصل جسده.. قال: امتلأ المكان.. تنهدت وقالت بهدوء: المكان المكان. تحدرت دمعتان ساخنتان.. وعطفت بجسدها نحو البحر لتخبئ حزناً وقلقاً ملآ جوانحها.
كان الهواء وقتها يتسلل من بين الأشجار والنباتات الخضراء مخضباً أجواء المقهى بروائح عطرية.. لم تبالِ بترتيب شعرها الذي ينثره النسيم، قال بصوت مكتوم: سأغادر تونس صباح بعد غدٍ, لوت عنقها نحوه, ونظرت بكثير من التأمل.. وقالت: هل يمكن أن نقبض على الريح, ونروّض الأمواج؟ قال ونار مستعرة في داخله: آمل ألا يكون لقاؤنا حلماً بهيجاً يغتاله موج عابر، قالت: أرجوك اصمت، قال: لا أستطيع إخفاء لظى حرقتي؛ فصهد الوجد أدمى قلبي، قالت: ثمّة شوق يتهجاه قلبي.. إلا أنني كتلك المحبوسة في أعماق البحر.. لو شمّت الهواء.. ماتت.. أنا نبت هنا.. مثل الفل.. يذبل حين قطفه، قال: سأفرش لك سجادة من الودّ والشوق والأزاهير, وأضعك في أحداق عيني, وسأخبئك في غرفة قلبي.
وضعت كتاباً شاحب الألوان أمامه، وقالت: هدية مني لك.. كتاب ورثته عن جدي لأمي. تناول الكتاب بكثير من الدهشة ونظر إلى الكتاب وإلى عينيها.. ثمّة قهوة ساخنة تملأ بحر عينيها. أعاد النظر في الكتاب.. قوس أزرق.. عنوان متآكل.. ثمّة رسمة غريبة.
قالت: هل يمكن للحادي استرداد صوته الذي شدا به؟ وهل تستطيع الغيمة إعادة وهجها الذي رمته منذ آلاف السنين؟ هل بمقدور التاريخ النطق؟
نحن يا سيدي كنبت الصحراء.. الذي يزرع في خميلة خضراء.. فلم يعد يهمه لفح الشمس أو نداوة المطر.
وقتها كان فيض من المشاعر يحتويه.. وثمّة أمل أن تقبل الهدية التي سيفصح عنها.. وقال: قبل أن أقبل هديتك.. آمل قبول هديتي.. مدّ يده نحو صدره، وقال: انتزعي قلبي، قالت بنبرات حزينة: يمكن قبول هديتك الغالية إلا أنني أشترط استمرار الهجرة كما حدثت في الماضي.. فالماء إذا تسرب من نبع النهر.. لا يعود.. لا يعود..
نظر إلى البحر، وقال متأوهاً: السفر بعد غدٍ.
| | |
|