(القارورة) ليوسف المحيميد من الحكاية إلى المحكي 1-2
|
وأنا أقرأ رواية (القارورة) للكاتب والروائي السعودي يوسف المحيميد لمستُ هذا الاشتغال المعرفي - الفني من الحكاية إلى البناء ليصبح هذا الأخير مظهراً من مظاهر الوعي المحتمل للحكاية وإنتاجا ثقافيا مغايرا للواقع.
ولعل (القارورة) من بين النصوص الروائية التي تعمل على تنشيط السؤال في أبعاده النقدية والمعرفية - الثقافية، كما أنها من الأعمال التي تُحدث خللا في رتابة بعض الطروحات النقدية التي تكاد تفرض نفسها في مرحلة، باعتبارها مرجعية شبه ثابتة، وذلك بفعل تكريسها من خلال عينة من النصوص الروائية.
القارورة نص روائي ينتج معرفة فنية وثقافية حول اتجاهات الإبداعية الروائية السعودية التي باتت تفرض ضرورة انخراط أسئلة النقد في مساحاتها الرمزية، نظرا لما تعبّر عنه من انفتاح المتخيل على إمكانات من الوعي، تتجاوز بمرونة تقنية وجمالية أشكال الوعي السائدة في المجتمع السعودي.
1- عن قصة (القارورة)
تحكي الرواية عن حربين تنشبان بالتوازي: حرب ضد مشاعر امرأة، يُدخلها الحبيب زمن العشق، فتعيش الحب بكل تفاصيله وأبعاده الذاتية، ثم تكتشف بعد ذلك خيانة الحبيب الذي تقرب منها لينتقم من أخيها. ثم الحرب ضد الكويت التي سترعب المكان والإنسان والمفاهيم.
تلتقي الحربان في زمن البداية والنهاية، وفي تفاصيل الأحداث المتداخلة، كما يلتقيان في معنى الخلط المرعب للمفاهيم والقيم والزمن. وعبر الحربين تتفجر حكايات تُخرجها الحرب من صمتها: (ولم تمض سوى أيام حتى صارت الكويت الصغيرة المحافظة العراقية التاسعة عشرة، وأصبح أنا المحافظة الثامنة في أملاك الدحال السرية، بعد ستة صغار وزوجة لم تكتشف إلا مع اسمه الحقيقي، الذي لم يكن علي الدحال) (ص140).
2- البناء الحاضن للحكاية
تقترح رواية (القارورة) شكلا بنائيا مغايرا لاحتضان الحكاية، وهو شكل غير مُصرَّح به ظاهريا من إعلان مكشوف سرديا لنوعية التجارب؛ فهي لا تنتمي إلى النصوص التي تعتمد على سرد الحكاية أفقياً، واعتماد سارد واحد، يُخبر بالحكاية، ويدعها تُسرد وفق موقعه السردي. وليست من النوع الذي يكسر رتابة الأفقي ليدع الحكاية تتشظى عموديا، عبر تعدد السارد، وترك الفرصة للقارئ لكي يُعيد تجميع شتات الحكاية لإعلانها نظاما، وفق خلفية السرد الذي انبنت عليه الرواية، وإنما هي كتابة روائية تسترسل في سرد حكايتها بدون تشظٍ، غير أنها لا تخضع للرؤية السردية الواحدة، ولا يسردها سارد واحد ووحيد، وإنما تعرف في تكوّنها حالة تناوب سردي. يفرض هذا الشكل من البناء - بدوره - تريثا في عملية مواكبة كيفية بناء المادة الحكائية.
لهذا، فإن أهم ما يميّز كتابة هذه الرواية، إلى جانب البُعد المعرفي والاجتماعي والثقافي الذي تطرحه، هو منطق التحولات البنيوية التي يعرفها السرد داخل هذا النص من جهة، ثم إمكانيات النص الثقافية التي تدفع بالتحليل إلى الخروج بالمحكي إلى مساحات السياقات الثقافية للمجتمع السعودي، وهذا ما يجعل القراءة تتحرك بين مكونات النص البنائية الفنية، وبين مكونات النص الثقافية التي تعزز بلحظة الانخراط في أسئلة واقع المجتمع السعودي، وهي حركية تفاعلية وعلائقية تنتج أشكالا من الرفض تبدأ من رفض الصور المألوفة الجاهزة التي يتربى عليها الفكر، وتوجه عن ثمة السلوك والممارسة الحياتية، (صور المرأة مثلا)، إلى اقتراح الصور البديلة التي تعلي من شأن الفرد في الحياة العامة والخاصة باعتباره رغبة وإرادة وفعلا حرا.
لا تعرف القارورة الثبات في مكونات الحكي، ولا الرتابة، في عملية السرد، وإنما استرسال الحكاية وفق طبيعة الوعي الذي يشكل - بدوره - زمن الكتابة هو الذي يصنع هذه التحولات.
فالشخصية المحورية التي انبنى عليها الحكي (منيرة) تبدو شخصية تتلقى الحكاية من الجدة، والأوامر من الأخ الأكبر والأب، والصور الجاهزة حول المرأة من منطق الأعراف، ثم تنتقل بفعل امتلاك القارورة بحكاياتها الصامتة إلى ساردة تحكي عن قصتها التي فاضت بها القارورة، وتكتب ألمها عندما راهنت على مشاعرها، فإذا بكرامتها تداس خيانة، وتوثق لخيانة حبيب تجعل من الكشف عنها لحظة الانتصار على لغة الأوامر والقانون في بلدها.
ينتصر السرد بهذا الشكل للشخصية منيرة، عندما ينتقل بها من موقع المفعول به، أو الموضوع الذي يتم التداول حول شأنه في نظام العشيرة والأسرة والمجتمع، ومن مجرد متلقية لحكايات الآخرين إلى صاحبة موقع تدبر شأن حكايتها بفعلها، وتكتب سرها الذي امتلأت به القارورة، وتصبح فاعلة في حكايتها عندما تمنح لها نظاما وترتيبا، أي تجعل منها زمنا لانبثاق وعي محتمل.
فعلت عملية الانتقال هذه في مجرى الحكاية وجعلتها تُنتج وعيا استثنائيا، ولعل الذي أسهم في الانتقال من الصمت والشفهي إلى الكتابة والتوثيق كون (منيرة) تدخل مجال الحكي باعتبارها ممارسة لفعل الكتابة الصحفية. فقد كانت تكتب عمودا صحفيا (ورد في آنية) إلى جانب امتلائها حكايا الآخرين لكونها تشتغل بدار الفتيات، وتُلزمها وظيفتها الإصغاء إلى حكايات الآخرين أو بالأحرى حكايات الأخريات؛ ولهذا، فالموقع الذي تشهد تكَوُّنه داخل المجال السردي، لم يكن مفتعلا أو جاهزا، وإنما كان مُدَعَّماً بمكونات تخص طبيعة شخصية (منيرة).
تتشكل حكاية (القارورة) سرديا بين ضميرين رئيسيين: من جهة ضمير المتكلم المعلن صراحة، وعبر مؤشرات ملموسة على امتلاك (منيرة) أحقية الحكي عن حكايتها وبضميرها الصريح الذي يسرد حكاية خيانة الحبيب وبالموازاة حكاية الحرب على الكويت، ويتخلل هذا التوازي الحكي عن الأعراف والتقاليد. ومن جهة ثانية، ضمير الغائب الذي يسرد (القارورة) انطلاقا من موقعه فيقدم معرفة عن العام، ويلتبس أحيانا مع أصوات اجتماعية قد تكون صوت المجتمع والأعراف وكل ما يشكل السياق العام.
هكذا، تعيش القارورة حالة التكون الروائي وهي تخرج تدريجيا من ظلام القارورة حكايات مشتتة إلى بياض الكتابة. تخرج من حالة الشفهي إلى المكتوب، ومن المكتوب إلى المسرود لتأخذ شكلها الطبيعي ضمن نظرية جنس الرواية، حيث يصبح لها منطق يؤثث أفعالها وعلاقات شخصياتها، ويصبح
جوهر وجودها ليس في اعتبارها حكاية من الحكايات، وإنما كونها صارت شكلا من الوعي الذي قد يربك وعيا قائماً، ويخلخل رتابته ويخدش منطقه.
غير أن هذا الوضع التناوبي بين الضميرين المتكلم والغائب، لا يتم بشكل فجائي أو اقتحامي، كما لا يُحدث خدشا في استرسالية القراءة، ولا يوقف القراءة بدعوى الانتباه إلى دخول ضمير جديد يسرد ما تبقى من حكي الحكاية. كما لا يحدث التغيير على مستوى أسلوب الكتابة. لا نشعر - كقراء - بلعبة الضمائر المكشوفة في صناعة النص، وإنما نشعر بحالة سردية منسجمة بنائيا وأسلوبيا تعمّق الرؤية على ذات الساردة - منيرة عبر رؤية المتكلم، وتضيء هذه الذات الرؤية الجماعية عبر الغائب باعتباره ضميرا عارفا بكل شيء وموجودا في كل مكان.
بل الذي يحدث هو انتصار السرد لضمير المتكلم، عندما يجعله يفتت سلطة الغائب المعرفية. ويتم ذلك بمرونة فنية لا تحدث اصطداما ضمائريا، وإنما يمكن الحديث في هذا المستوى عن مظهر من مظاهر تكون الحوارية. وهي حوارية الملفوظات التي تحدث عنها الناقد الروسي ميخائيل باختين، حوارية لا تتم في سياق إخباري، وإنما تعرف حوارات بين الملفوظات، خاصة مع ظهور ضمير المخاطب الذي أصبح ضميرا ملازما، للضميرين الرئيسيين. فالكتابة الروائية في (القارورة) هي التي تدفع باتجاه هذه الحوارية.
إذا كان الحوار بين الشخصيات في سياق اجتماعي محكوم بسلطة الأوامر والأعراف، ومنطق السماح لصوت دون آخر بالكلام والتعبير، فإن الحوار حتى وإن حضر - على قلته - في النص فإنه لا يرقى إلى إنتاج الحوارية، لأن المتكلمين يدخلون مجال تبادل الكلام بدون المساواة في حقوق التعبير. ولهذا، فالرواية قد تمكنت أن ترقى بحواريتها عبر استثمار ملفوظات المتكلمين التي ترد في المقاطع السردية.
وهي حوارية بين مستويات سردية: مستوى السارد الغائب الذي يتأكد مع كل تدرج سردي أنه يدخل برغبة مراقبة الساردة بضمير المتكلم، وتلقين معرفة حول وضع معين يخص بلد بعينه، وقضايا محددة وفق أعراف وشروط سياقية، ولكن ملفوظات هذا السارد تخرج من سياقها الاجتماعي - المادي، وتدخل السياق الروائي - التخييلي لتجد نفسها محكومة بمنطق مختلف يُربك سلطتها ويجعلها تدخل في شرط استثنائي، وتجاورها في هذا الشرط ملفوظات أخرى يسمح لها السياق السردي بالتعبير المفتوح على قضايا مسكوت عنها.
د. زهور كرام *
ناقدة وروائية من المغرب
| | |
|
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى
chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى
admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved
|