عبد القادر طاش فلسفة حياته وأعماله وريادته في الإعلام الإسلاميّ2
|
أسلوبه في ممارسة مهنته
لا بدّ أن أشهد له بخصلة أعتبرها من مفاتيح نجاحه مهنياً، فقد كان يحرص كل الحرص - ولا يستكبر - على أن يسأل من يزوره من زملاء المهنة ورجال القلم وأصحاب الرأي عن رأيهم في مطبوعته، ولا يكتفي بأن يكون ذلك بينه وبينهم، بل يدعو في معظم الأحوال الذين يعملون معه في التحرير للحضور والاستماع والنقاش.
وأذكر أنني عندما زرته لأول مرة بعد توليه رئاسة تحرير (المسلمون) فعل ذلك وجمع المحررين وظل يصرّ على الاستماع للعيوب والنواقص، وعندما حاولت التنصل حياءً، قال لي بلطفه المعهود: المحاسن نحن نعرفها، ولكن تخفى علينا عيوبنا أثناء العمل اليومي، فلا نكاد نتعرف عليها، وما الذي يمكن أن نفعله في المستقبل ترى أن الإنسان المسلم بحاجة إليه؟
وكان يتابع معظم أصحاب المقالات في الصحف، فعندما أصبح رئيساً لتحرير (عرب نيوز) حرص على الاتصال ببعض أصحاب الأقلام التي تخدم رسالته وكنت منهم، فقال لي بودّ: أتابع ما تكتبه عن الجانب السلوكي في حياة المسلمين المعاصرين في عمودك الأسبوعي بجريدة (المدينة)، فحبذا لو تكتب لنا عدة مقالات في هذا الجانب باللغة الإنجليزية؛ ليعرف المسلم وغير المسلم من غير العرب أن حضارة الإسلام هي حضارة السلوك والمعاملات، وبالفعل كتبت له عدة مقالات، وعندما توقفت قال لي: اسمح لنا بأن نترجم بعد مقالاتك إذا كان وقتك لا يتسع للكتابة لنا، وقد فعل.
ولا أذكر أني لقيته مرهقاً وقلقاً كما لقيته بعد توليه رئاسة تحرير (جريدة البلاد)، فقد كان يواصل العمل ساعات طويلة ويقف على كل صغيرة وكبيرة، فقد كان يخشى أن يصل إلى طريق انتهى إليه من سبقوه. رأيته يهيئ سبل النجاح ورأينا تباشيره على صفحاتها. وكثف في هذه الفترة فرص استماعه للآخرين وآرائهم في هذه الصحيفة. كان يستمع بإنصات وصبر عظيم لا يقدر عليه كل إنسان حتى الذين يهاجمون بلا دليل أو منطق، وإذا وصل أحد إلى المساس به شخصياً يبتسم ابتسامة المسامح ثم ينقل الحديث إلى المفيد، وأشهد أنه في لقائي ذاك به دافع عن هذه الجريدة وتاريخها وجهود كل الذين حاولوا الارتقاء بها، ولم ينتقص من عمل إنسان، ولم يغمز ولم يلمز أحداً كما يحلو لبعض الذين يتسنمون المناصب إذ عندها ينالون من سابقيهم.
وضع النقاط على الحروف بإنصاف دون مجاملة أو إسراف وقال: (توكلت على الله.. سأبدأ من حيث انتهى غيري ومن يتوكل على الله فهو حسبه).
وداخلني شك في استمراره لا في قدرته، فقد كانت (العقبات) خارج حدود إرادته، وكانت هناك عجلات لابد أن تسير، لكن لم يكن بيده قيادها. يومها تحدث طويلاً على غير عادته، وأفاض في شرح ما يريد أن يحقق لهذه الصحيفة، وكان برنامجاً جسوراً وطموحاً، كان صوته يتهدج صدقاً وإخلاصاً أثناء حديثه، لكني رأيت في عينيه نظرة (قلق) تلتمع من حين لآخر، سألت الله له أن يتجاوز مسبباتها، ويتحقق له ما يتمناه، فقد رافقه النجاح في كل موقع عمل فيه، وقلت له وهو يشدّ على يدي مودعاً عند باب مكتبه: أنا على ثقة بأن العطار سيصلح ما أفسده الدهر؛ فضحك من قلبه بعمق، وقال بحصافة المؤمن: {وَمَا تَشَاؤُونَ إِلَّا أَن يَشَاء اللَّهُ}. وسبقت مشيئة الله وغادر العطار جريدة البلاد بعد عام تقريباً، ولم تستطع عقاقيره إصلاح ما يريد.
ريادة المنهج ووضوح الرؤية
كانت (الرؤية الوسطية المستنيرة) و(الهدف الواضح المحدد) يصاحبانه في كل ما قال وكتب وعمل منذ دلف الوسط الإعلامي فميزاه عن غيره، فمؤلفاته الإعلامية تشهد له جميعاً بذلك، فلا عجب أن يكون أول كتاب يصدر له بعنوان (أزمة الحضارة الغربية والبديل الإسلامي) سنة 1407هـ وهو لا يزال بعد حديث عهد بالمجتمع الغربي الذي عاد منه بعد حصوله على الدكتوراه من الولايات المتحدة.
قدم في هذا الكتاب نموذجاً للمجتمع الغربي وقيمه ممثلاً في المجتمع الأمريكي، درس عوامل الانحلال التي تنخر فيه في ضوء البديل الإسلامي باعتبار أن الإسلام هو الحل لأزمة الحضارة والخواء الروحي الذي يعيشه.
وحمل الهمّ الإعلامي الإسلامي وحشد لخدمته كل قدراته وإمكاناته، وظل يحذر في معظم ما يكتب من مقالات ويلقي من محاضرات وفي ما يشارك به في الندوات من أن الحرب التي يشنها الغرب علينا حرب إعلامية بالدرجة الأولى، وأن سلاح الإعلام أشد فتكاً من أسلحة الحروب، وقد عبر عن هذه الرؤية بطرق مختلفة في ثلاثة كتب، هي: (صورة الإسلام في الإعلام الغربي) 1490هـ وأعاد طبع هذا الكتاب بعد انتشار الحملة الغربية على الإسلام مؤخراً. وكتاب (الإعلام والتغريب الثقافي) 1412هـ وفيه تشخيص للعلاقة بين وسائل الإعلام وأزمة تغريب الهوية الثقافية الإسلامية، ودعا إلى منهج إعلامي إسلامي في معالجة مشكلة التبعية الإعلامية والغزو الفكري. أما كتابه (أمريكا والإسلام.. تعايش أم تصادم؟) 1414هـ فقد حاور في القضايا نفسها عدواً من الخبراء والمفكرين الأمريكيين والمسلمين في أمريكا، وطرح عليهم الهاجس الإعلامي والفكري الذي يشغله وخطورة الطريق الذي تسير عليه أمريكا اليوم في علاقتها بالإسلام والعرب وقضاياهم.
وبالمثل حمل عبد القادر طاش هموم الشعوب الإسلامية التي رزحت تحت نير الشيوعية واكتوت بنارها، وقدم عن جهادها دراسات وتحليلات لأوضاعها جمعت بين خبرة الإعلامي وفراسة المؤمن الذي يرى بنور الله، فكان كتابه (أفغانستان.. الجرح والأمل) سنة 1408هـ صرخة تحذير من أن يسرق العدد الآخر ثمرات الجهاد الأفغاني وتضيع أفغانستان مرة أخرى، وقد حدث ما حذر منه.
وفي سنة 1412هـ زار عبد القادر طاش دول آسيا الوسطى الإسلامية وتفقد أحوالهم وعاش ظروف مآسيهم وعاد ليكتب عن همومهم وأحلامهم منذ الاحتلال الشيوعي إلى الانفصال وتفكك الامبراطورية السوفيتية، وذلك ليضع الدول العربية والإسلامية الأخرى أمام مسؤولياتها تجاه هذه الشعوب التي تحررت وتريد الانفتاح على دينها وأمة هذا الدين، فكان كتابه الوثائقي (المسلمون في آسيا الوسطى والدور الإسلامي المطلوب) الذي أصدرته له هيئة الإغاثة الإسلامية العالمية.
وفي مجال خدمة (الرسالة الإعلامية) من خلال الدراسة أو المقال يعد كتاب (دراسات إعلامية) 1409هـ من أهم كتبه في اهتماماته النظرية بالإعلام الإسلامي، فقد درس فيه التصور الإسلامي للإعلام، وتحدث عن دور الإعلام الفاعل في توجيه الشباب.
أما كتاب (قدرنا أن نكون إسلاميين) 1413هـ فقد عبر في خمسين مقالة فيه عن الهم الإسلامي إعلامياً وفكرياً الذي حمله عبد القادر طاش، وعاش به يكتب عن قضاياه ويدافع عنها ويقف في صفها.
والملاحظ أن عبد القادر طاش لم يستقر طويلاً في المواقع التي كان يشغلها، وهذا ليس بمستغرب من مثله؛ فقد كان يقبل تلك (المواقع) ليس حباً في منصب أكبر أو جاه أوفر أو مال أكثر، بل كان مؤدياً لرسالته، وصاحب الرسالة يبقى في (الموقع) أو (المنصب) ما دام يستطيع فيه أن يؤدي رسالته على أكمل وجه، وما دام يشعر أن هذا الموقع لا يزال بحاجة إليه، فإذا حدث خلاف ذلك أو رأى من أصحابه ما يعيقه عن أداء رسالته تركه إلى موقع آخر.
ولعله كان يشعر - رحمه الله - أن الأجل لن يطول به في هذه الدنيا، وأن رسالته في الحياة أكبر من سنوات عمره، فأراد أن يؤسس في كل موقع يعمل به قاعدة لفكرة الإعلام الإسلامي التي نذر لها حياته، فلم يطل الإقامة في مكان واحد، ولكنه كان كحامل المسك لا يغادر موقعاً كان فيه إلا ويترك خلفه عطراً يذكره به مَن جاء من بعده.
كان عبد القادر طاش يشعر كأنه في سباق مع الموت، وكان يريد أن يحقق أكبر ما يمكن من أحلامه وطموحاته في خدمة رسالته الإعلامية. وفي السنتين الأخيرتين من حياته رأيناه كأنه يريد أن يتحرر وظيفياً من الارتباط بإرادة غيره حتى لا تتعرض حركته لمعوقات؛ فأسس (دار إعلام للدراسات والاستشارات الإعلامية)؛ ليستطيع التحكم في منهجه وتطبيق رؤيته الخاصة، ويحلم في الوقت نفسه بإصدار مجلة إسلامية دولية في القاهرة بعنوان (المستقبل) وقد بدأ بخطوات فيها، وكان يحلم بإنشاء موقع على الإنترنت باسم (التسامح الحق) بعدما رأى صدور أبناء أمته تضيق بعضها ببعض فيقتتلون في حين أن دينهم يتسع لكل خلافاتهم ويرتفع بهم فوقها.
وقد كانت هذه الرؤية المستنيرة لواقع الأمة الإسلامية وراء إعداده آخر كتبه الذي لم يطبع بعدُ، وهو بعنوان (من ثورة الصحوة إلى رشد الوسطية).
هكذا كرّس د. عبد القادر طاش كل حياته وعمله ومؤلفاته وجهده والمناصب التي شغلها في سبيل تحديد ملامح العمل الإعلامي إسلامياً في وطنه، والانطلاق من منهج واضح ومحدد يتخذ من التصور الإسلامي للإنسان والحياة والكون التزاماً وفلسفة للعمل الإعلامي الذي يؤديه من أي موقع يكون فيه، وقد قدم هذا (الالتزام الإسلامي) في الساحة الإعلامية السعودية نظرياً بتدريسه في الجامعة وفي محاضراته ومؤلفاته، ومارسه تطبيقياً في المطبوعات التي كان مسؤولاً عنها كلياً أو جزئياً، ولم يرتبط إعلامي سعودي قبله بلقب (الإعلامي الإسلامي) إلا هو، ولم تمنح هذا اللقب جامعة أو مؤسسة أو دولة، وإنما منحته له أعماله التي كان (الإسلام) فكراً ومنهجاً وفلسفة حياة ديدنها جميعاً ويميزها عن غيرها.
وبعد.. ألا يستحق عبد القادر طاش بعد هذا كله أن يكون رائد الإعلام الإسلامي في المملكة العربية السعودية؟
د. محمد أبو بكر حميد
| | |
|
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى
chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى
admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved
|