ورحل الساخران.. «2» العجيلي.. بين الحكاية والمقامة والمقالة
|
*نبيل سليمان:
(بعد محمد الماغوط، ها هو عبد السلام العجيلي يرحل. ولأن الموت يمعن في إلحاحه على الرموز الثقافية الكبرى في سورية، ولأن الحيّ يكاد يصير ندّابة، هو ذا هذا المقتطف من دراسة مطولة عند عبد السلام العجيلي، لم تنشر بعد).
***
الحكاية
كما تنسرب الحكاية إلى ما كتب العجيلي من القصة، وتتلبس بها، هو الأمر فيما كتب من أدب الرحلات ومن المقالة. والأمر هو كذلك فيما كتب العجيلي من الرواية والمقامة. ولعل جماع ذلك يؤكد للعجيلي لقب الحكواتي إضافة إلى ألقاب الروائي والقاص والمحاضر والرحالة والمثقف، دون أن ننسى لقبي الطبيب والسياسي. لقد نافت كتب المقالة في إنتاج العجيلي - متلبسة بما ذكرت - على اثني عشر كتاباً. لكن امتياز وإنجاز الحكواتي يتبدى فيما كتب العجيلي من أدب الرحلات.
ولعل هذه السطور من رسالته إلى أحمد الجندي أن تجلو أسّ ذلك: (إن أقوى الرحلات التي رحلتها أثراً في نفسي رحلة لم أقصّ أمرها عليك من قبل. كانت تلك الرحلة في زمن لم أكن قد تجاوزت السادسة من العمر فيه. وكان الفصل ربيعاً، وأعمامي في تلك الأيام ينزلون البادية في بيوت من الشعر في كل ربيع. ففي ذات يوم رحلنا أنا ولداتي من أبناء أعمامي من البلدة إلى حيث ينزل أهلنا، ومطايانا لا سيارة ولا طيارة، بل أرجلنا وبعض الحمير).
لقد استوحى العجيلي من قصيدة لبودلير عنوان كتابه (دعوة إلى السفر). ومن حكايات هذا الكتاب حسبي الإشارة إلى هاتين الحكايتين اللتين تتصلان بما تقدم من قصص اللقاء بالآخر (الغرب) في موطنه. أما الحكاية الأولى فهي (فتاة من زيوريخ) التي يشتبه فيها حب عبد الكريم بالشفقة بعد ما اكتشف أن المحبوبة مارغوت مشلولة اليد.
والحكاية الثانية تخاطب قصة (رصيف العذراء السوداء) عبر شخصية مارياس الصحفية الشاعرة ذات النزعة الصوفية، والتي كانت صديقة الوزراء ورجال الفكر وقطاع الطرق والأنصار اليوغسلاف، قبل أن تجمعها الصداقة والمصادفة مع الراوي.
قبل ذلك كان العجيلي قد جاء بكتابه (حكايات من الرحلات) ومنه حكاية (ليل باريس) التي تصف الاحتفال بمرور ألفي عام على بناء مدينة لوتسيا (باريس القديمة). وفي باريس أيضاً تأتي حكاية الراوي مع طلبة عرب في ساحة السوربون، حيث يلتقي طالبة عربية متزمتة مع زميلتها الفرنسية المتحررة، ويسهر الثلاثة في ملهى شرقي يصخب فيه أثر الراقصة العربية على الفرنسيات. وفي باريس - ثالثة - تأتي في هيئة المشهد المسرحي (فرنسا وحمد) حكاية الراوي مع صديقه الفرنسي الدكتور كارل الذي يتبنى سياسة بلاده الاستعمارية في تونس. ومن الملحوظ أن الهاجس القومي - السياسي يحضر في حكايات شتى كهذه الحكاية، وكما في حكاية (ذات الشعر الأحمر) حيث ترتدي صديقة الراوي الأمريكية (الزي الوجودي)، وهي الفقيرة الجائعة التي تكتب الشعر. ويلاحظ الراوي في هذه الحكاية أن الدولار هو الشيء الأمريكي الوحيد ذو القيمة، والباقي تافه تفاهة الرؤوس الحاكمة في واشنطن.
***
المقامة
في مقدمة كتاب (المقامات) ذكر العجيلي أنه قد بدأ كتابة المقامة على مقاعد الدرس في تجهيز حلب، ولم يكن يعلم من فن المقامة إلا قليلاً. لكن الأمر راق له فعاد إليه حين صار طالباً جامعياً في دمشق. وقد كانت فاتحة ذلك (المقامة الطبية الأولى) التي نشرتها عام 1942 مجلة الصباح الدمشقية في عدد خاص أصدرته الرابطة الثقافية في المعهد الطبي العربي. وقد حملت المقامة توقيع (بديع الزمان) ونبضت كسواها من سائر مقامات العجيلي بالسخرية. وهي تبدأ بالبداية المعهودة في فن المقامة (حدثنا عبد السلام من محب: قال:). وسوف يروي هذا المحدث المقامة الطبية الثانية والمقابلة البرازيلية، بينما يروي الأريب النجيب المحب بن حبيب المقامة الحقوقية، ويروي هيُّ بن بيّ المقامة الصحفية، ويروي الكسّاب الوهاب الدكتور والبة بن الحباب المقامة القنصلية. أما مقامة (صديقي ثريا ذو الأنف) والمقامة البرلمانية والمقامة الباريسية فقد خرجت على السنن وجاءت بلا رواة.
تسلق المقامة الطبية الأولى أساتذة وطلبة المعهد الطبي سلقاً عبر ما تسرده من فحص مريض على يد الأستاذ الذي يخاطب طلبته، فالتفت الأستاذ إلينا، وقال: (انعموا بهذا المريض عيناً. دونكم إياه فاقرعوه واسمعوه، وجسوه ومسوه، فاندفعنا إليه كالسيل، وهو ينادي بالثبور والويل، فنزعنا عنه أسماله، وجسسنا له كبده وطحاله، وشددناه ومططناه، وأفرجنا عنه وغططناه، وقرعنا صدره فإذا أضلاع كأصابع البيان، تهتز بمختلف النغمات والألحان، وعضلات كالأوتار، تدق أنواع البشارف والأدوار، وقلب يركض خببا، ويدق عجبا، ويصيح: واحربا). أما علاج الأستاذ للمريض فقد كان خطابه لتلامذته: (أعطوا هذا المسكين دواء يزيد ضرّه ويقصف عمره، ويكفي الناس والطب شرّه). وقد تابع العجيلي في مقاماته سنن إنهاء المقامة و - أو تضمينها أبياتاً من نظمه. ومن ذلك ما ختم به المقامة الحقوقية (1942 أيضاً) التي تسخر من أساتذة معهد الحقوق (كلية الحقوق):
أخنى الزمان على أهلي وأرهاطي
واستبدل الناس منهم كلَّ طاغيةٍ
يا طالب العلم منه أنت في شططٍ
ولفّهم دهريَ القاسي بأقماطِ
وكلّ علج لهم أسماء قرباط
ذا العلم كذب وأغلاط بأغلاط
وفي المقامة الطبية الثانية (1943) يحدثنا عبد السلام بن محب عن غفوته وهو يحتضن عظماً، وحلمه بالموت والحساب ودخول الجنة ولقائه بفاتنة، ويقول: وبينما كنت أنهل من رضابها وأغبُّ، غريقاً في لجة الوجد والهوى، إذ سقط الكتاب من حجري وهوى، فانتبهت من حلمي مرعوباً، فوجدتني محتضناً من العظم ظنبوبا، وقد أهويت على قنزعته بفمي، حتى سال من شفتي دمي، فرفست عندها العظام بعيداً، وصغت حسراتي قصيداً، وقلت:
غيري على التشريح قادر
لي كل يوم موتة
وسواي في الطلاب صابر
بين المجاهر والمخابر
في السنة التالية (1944) يكتب العجيلي المقامة البرازيلية نسبة إلى مقهى البرازيل الذي كان مهوى المثقفين والساسة والصحفيين ساخراً من أدعياء الثقافة والأدب. وقد ضمّن الكاتب كتابه (المقامات) المقامة المسكوبية التي أرسلها صديقان من أقرانه في مقهى البرازيل، غادرا إلى السفارة السورية في باريس، وكذلك نص المقامة النهدية التي أرسلها نزار قباني من أنقرة - حيث كان يعمل في السفارة السورية - إلى العجيلي الذي ردّ على الرسالة الأولى بالمقامة البرلمانية (1948)، وعلى الرسالة الثانية بالمقامة القنصلية (1949) التي يسمي نزار قباني فيها بصريع الغواني أبي النهد الأشقراني، ومنها ما ينظمه العجيلي على لسان قباني معرّضاً بديوانه الأول (قالت لي السمراء):
قالت لي السمراء إنك باردُ
ترمين بالنعل العتيقة عاشقاً
فأجبتها بل أنت في أبردُ
يروي حكايات الغرام وينشدُ
وقد جاءت المقامة الباريسية (1952) في هيئة رسالة أيضاً أرسلها العجيلي من الرقة إلى صحبه في باريس، ومنهم عبد الرحمن بدوي ويونس بحري وأديب مروة... وبهذه المقامة ودّع العجيلي هذا اللون من الكتابة، دون أن يتخلى عن السخرية والإخوانيات في بعض كتاباته التالية غير الإبداعية.
***
المقالة
يلتبس غمر المقالات التي كتبها العجيلي في عشرات الصحف والمجلات طوال عشرات السنين، بالحكاية والمحاضرة والمذكرات والمحاورة - المقابلة - والحديث والرسالة والخاطرة والاعترافات. وحسبي التمثيل لذلك بمقالة (المأساة) من كتاب (من كل واد عصا) حيث يتحدث عن صديق سرعان ما يتكشف أنه هو العجيلي نفسه، إذ يذكر رحلة الرجل إلى مدينة أبسالا السويدية - لنتذكر قصة (سالي) - ويذكر أنه التقى في مقهى دوماغو في باريس بامرأة سيكتشف بعد سنين أنها سيمون دوبوفوار. وليس ذلك غير ما ذكره العجيلي عن نفسه في حواره المشار إليه سابقاً، مع ياسين رفاعية.
في مقالة العجيلي إذن من السيرية ما فيها، شأنها شأن ما كتب من القصة أو الحكاية أو المقامة أو الرواية. على أن المقالة ربما كانت مجلى أكبر صراحة لأفكار صاحبها. ومما يمثل لذلك قوله في مقالة (المأساة): إن المأساة (هي في انتسابك إلى مجموعة بشرية لا ترضيك تصرفاتها، وتحمل شئت أم أبيت هويتها، ونصيبك من مسئولياتها، ثم لا تستطيع أن تغير فتيلاً من تلك التصرفات، ولا أن تتبرأ من ذلك الانتساب). وعلى الرغم مما يبدو في هذا القول من حنق ومرارة، ففي رأي العجيلي (أن كل صاحب فكر وكل قادر على أن يعبر عن فكره يجب أن يسخر إمكانياته، من فكر وتعبير، لخير الجمهور الذي هو منه). وقد أكد مراراً على نفوره من (الالتزام الرسمي) الذي يجعر به (الأدب الرسمي)، كما عبر الكثير من مقالاته عن نزوعه الليبرالي. ولعل الإشارة هنا ضرورية إلى مشاركته في احتفال رابطة حقوق الإنسان (14 -12 -1964) على مدرج جامعة دمشق، بالذكرى السادسة عشرة للإعلان العالمي لحقوق الإنسان. كذلك هي الإشارة إلى ما أرسله عام 1966 في مفكري السلطات المستبدة: (في رأيي أن هؤلاء مرتزقة فكر لا مفكرون)، وعلى النقيض من أولاء هم المثقفون المضطهدون: (إن للموت أشكالاً جسدية وروحية تُسأل عنها المنافي والمعتقلات والمقابر في كل بلد عربي حكمته سلطة مستبدة في يوم من الأيام).
* ناقد سوريّ
| | |
|
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى
chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى
admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved
|