مأساة الليبرالية الجديدة (3)
|
*فاضل الربيعي:
كانت النخبة الثقافية والفكرية العراقية في مطالع القرن الماضي مع الاحتلال البريطاني تنشطر إلى شطرين؛ أحدهما تقليدي والآخر حداثي، وقد توزعتا في طبقتين (بالمعنى الحصري لكلمة طبقة): طبقة المتعلمين في مدارس حديثة والمثقفين المتمدنين الذين يرتدون الأزياء الأوروبية، وبعضهم درس في الآستانة وزار أوروبا (فهمي المدرس مثلاً)، وطبقة أخرى هي مزيج من رجال الدين والأدباء، وهؤلاء في الغالب الأعم كانوا من أبناء النجف والحلة (محافظة بابل اليوم)؛ حيث الموطن التاريخي للمؤسسة الدينية (التي انتقلت مؤقتاً) من النجف إلى الحلة في وقت ما من الأوقات لتنشأ هناك مدارس دينية تضاهي أهميتها إلى حد ما أهمية مدارس النجف، وكانوا لا يزالون يظهرون في المحافل العامة بعمائمهم البيضاء وجلابيبهم الدينية المميزة. وفي الواقع لم يقع تعارض له قيمة بين الطبقتين، ومن النادر رؤية أي نوع من التناقض في صفوفهم على أساس الاختلاف والتمايز في نوع التعليم أو الثياب. وعلى العكس من ذلك نشأت بينهم صداقات أدبية وشخصية سجلوها في مراسلات وقصائد وجدانية حارة، لكنهم افترقوا عند مفترق طرق الصدام مع الغرب. في إحدى الحالات جرى نوع من الصراع حول مسألة السفور؛ حيث انشطرت النخبة بين سفوريين (من سفور الوجه) وحجابيين (من الحجاب)، ولكن في الحالة النموذجية للصراع فإن الافتراق حدث حين انحاز الحداثيون إلى الغرب وقيمه ونظرياته ومدنيته ولما كان يُدعى أيضاً روح العصر، بينما وقف المثقفون التقليديون موقفاً مناوئاً ومعارضاً، وفي بعض الحالات متصادماً مع أكثر القضايا حساسية.
كان المثقفون التقليديون مزيجاً فريداً وغير مألوف في الثقافات الأخرى؛ حيث يختلط الدين بالشعر، والبحث التاريخي بفنون التحقيق، والخطب الدينية بقصائد الغزل، والنوادر التراثية بالطرائف الاجتماعية. وكانت لهذا المزيج الخلاق بفضل ذلك حساسية خاصة مفرطة بعض الشيء إزاء جملة من القضايا العامة، أهمها مسألة الموقف من الحرب ضد السلطنة العثمانية. إنهم المثقفون التقليديون الذين سوف يسارعون مع سقوط البصرة وبقيادة الشيخ محمد سعيد الحبوبي إلى قيادة القتال بأنفسهم ضد البريطانيين، بينما على الطرف الآخر أظهر الحداثيون تردداً مكشوفاً أو حتى انحيازاً سافراً للاحتلال في بعض الحالات؛ فقد سارع عدد كبير من الكتَّاب والمفكرين الحداثيين منذ سقوط البصرة في 1914م وبالضد من موقف كثرة من المثقفين التقليديين؛ أي بالضد من موقف رجال الدين الشعراء الذين هالهم الزحف العسكري للبريطانيين من الجنوب وهبُّوا لقتاله، وفي مقدمهم رجال دين بينهم شعراء وخطباء وأئمة مساجد، إلى التبشير باقتراب الخلاص من الاستبداد العثماني وانبلاج فجر المدنية والحرية. كان الحداثيون يؤمنون بعمق، ولكن بقدر قليل من الإدراك الحصيف، أن الأوروبيين سوف يفتحون أمام مجتمعهم صندوق الغرب السحري، وأنهم لهذا يربطون مصير أفكارهم وحتى أقدارهم الشخصية بالرهان على تحقُّق الوعود المقطوعة. ثم تجلَّت أكبر أوهام النخب الفكرية والثقافية العراقية، وفي أنصع الصور، حين استقبل عدد منهم بالترحاب والتهليل فاتح بغداد الجنرال مود في آذار/ مارس 1917م كما فعل الرصافي مثلاً في قصيدته الشهيرة (فاتح بغداد).
كان الرصافي الذي تتبع خطى الزهاوي مسحوراً بفلسفته الشعرية وجرأته التي بلغت أحياناً درجة الوقاحة والاستفزاز، ومن دون أن تكون لديه الفرصة لعقد صداقة مع الرجل الذي أحبه وأعجب به (وهذه تمكَّن من الحصول عليها تالياً) نموذجاً ممتازاً للمثقف القلق. لقد ارتعشت روحه أمام الخطى الجبارة لفكرة الحداثة، ولكن من دون أن تكون لديه القدرة على موازنة الأمور موازنة صحيحة. وتجلت أعظم أخطائه حين زجَّ بنفسه في حقل السياسة اليومية وراح يعقب على الأحداث شعرياً وكأنه يقوم بذلك بمهمة مقدسة في ترويجه لأفكارٍ بدت في نظر نقاده وكأنها تكرار لأفكار ماسونية كانت مألوفة في هذا الوقت. كان الرصافي يرى في نفسه، وبحكم كونه شاعراً، أنه أحق من الآخرين بالدعوة إلى الإصلاح وقيادة معاركه، ولكنه ما لبث أن كشف عن حقيقة مروَّعة: كان وعيه السياسي للأحداث يتدنى ويتسطَّح أمام جاذبية أفكار وأحلام الإصلاح، بينما يتصاعد وعيه للعالم شعرياً وإلى الحدِّ الذي لم يعد بالوسع التمييز بين ما يبدو خيالاً صافياً خالياً من أي أثر للواقع وبين ما هو واقع متشابك ومعقد لا يترك للمرء أدنى قدر من الحلم والخيال. وعندما عاد من الآستانة خائباً بعد إخفاقه في إصدار مطبوعة إصلاحية بالتعاون مع التنويريين الأتراك، وإثر تبلور معاداته للسلطان عبد الحميد كلياً على أيدي هؤلاء، وجد الرصافي نفسه يردِّد فكرة ملتبسة عن الإخاء الديني. في هذه الفكرة ومن خلالها تجلت بعض أوهامه عن التحول الهائل في العصر، كان يؤمن أن العصر الجديد وزوال الاستبداد العثماني هو عالم إخاء من نوع لا سابق له بين البشر. وإثر سقوط القدس في يد الجنرال اللينبي في 1917م ومع تصاعد الدعوى لتهويد فلسطين وصل هربرت صموئيل أبرز القادة الصهاينة فوقف الرصافي يحيِّيه من بغداد بقصيدة كال له نقاده بسببها أقذع التهم:
خطاب يهودا قد دعانا إلى الفكر
وذكرنا ما نحن فيه على ذكر
لدى محفلٍ في القدس بالقوم حافل
تبوأه هربر صموئيل في الصدر
دعاهم رئيس القدس ذو الفضل راغب
إليه فلبّوا دعوة من فتى حر
فأمسوا وفي ليل المحاق اجتماعهم
يحفّون من هربر صموئيل بالبدر
تراءى احتلال فلسطين في حمى الدعوة إلى التحديث والإصلاح كما لو كان استطراداً في نضال الفتى العربي الحر من أجل الحرية، ليقف هذا مستجيباً للوهم ولروح التحدي الزائفة، محارباً - مثل دون كيشوت جديد - الاستبداد بلا هوادة، ومستسلماً لقدره البطولي، تعتمل في روحه بسالة عربي وجد نفسه في الميدان ولا سبيل أمامه سوى القتال حتى الموت، ولكن من دون كثير إدراك بأنه يخوض معركة آخرين لا معركته هو. وسرعان ما وجد الرصافي نفسه وبعد قليلٍ فقط من الوقت وتسارع الوقائع على الأرض وظهور أدلة جديدة كذلك برهنت له على أنه ضحية خداع لا مثيل له، ليحذر العرب والعراقيين من مكائد الاستعمار.
| | |
|
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى
chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى
admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved
|