كراكيب الكلام شجرة من روح - سوزان عليوان؟!
|
*عبدالله الجفري:
* (عصفور المقهى) حملها على جناحيه الصغيرين الرقيقين، ليطلقها عام 1994 شاعرة فراشات ملونة، وبالونات.. ومن قبل: (كائن اسمه الحب) الصادر عام (2001)، أطلقت منه حلم طفولة ورفَّة عصفور، فرسمت بالكلمات هذه اللوحة: (شريطة في شعر طفلة تحلم بأن تكون فراشة - فراشة تحلم بأن تكون - شريطة في شعر طفلة)، وفي عام (2004) دعت عشاق لوحاتها الشعرية قائلة: (لنتخيَّل المشهد)، فإذا ديوانها يطوف بهذا النداء: (مَنْ أحبَّ إنساناً.. أحب الناس جميعاً)!!
وفي ربيع (2006) الآن: أصدرت أحدث ما كتبت وصورت من معاناة إنسان وجيل، فسمَّت كتابها: (كراكيب الكلام).. كأنها تصف العصر، أو... تتهم حواره!!
* * *
* إنها الشاعرة اللبنانية المتجددة سوزان عليوان، التي ترسم أغلفة دواوينها بريشتها الخاصة، بقليل من الألوان، فهي حتى في شعرها لا تميل إلى صخب الألوان، ولا إلى صخب الكلام والمعاني.. يكفيها أن تُعبِّر وترسم بالريشة وبالكلمة صخب النفس الإنسانية. وفي قصائد (سوزان): يتلمس متأمل لوحاتها مزيجاً من غربة النفس التي لا تستقر، ومن المصالحة مع الحلم، لكنها ليست غربة المدن، ولا الهروب من التأمل.. فهي تنشئ في كل قصيدة، وفي كل ديوان: مدينة تزينها وتتحكم في بوابتها، وتتجانس مع طقسها الوجداني والإنساني، وحتى الفكري.
تحلم دائماً ب(قوس قزح) وشجرة اللوز، وغابة العصافير، فترسم لوحتها:
- (شجرة اللوز، صديقتي
ذات الضحكات المتلألئة في الضباب
غابة العصافير الممتدة
من سور السَّرْو، إلى أقصى السماء)!!
* * *
* لا تميل إلى كتابة (عنوان) لكل لوحة من لوحات قصائدها.. كأن لوحات الديوان تتكامل أو تتوحد بهذا (السرد) الذي تبلور به مشهدا في كل لوحة.. فتحس ان الديوان يقوم على قصيدة واحدة، ولكنه يتشكل من فصول.. كل فصل يتبلور لوحة خلابة من الصور والمعاني.. ذلك ان الشاعرة في إبداعها الشعري عاشقة لهذه (الذروة) في اكتمال الصورة الشعرية، حتى لو تكونت من جملة واحدة، هي: صورة - لوحة، أو لوحة - صورة.
وتذكرنا (سوزان عليوان) في أبعاد صورها وألوان لوحاتها الشعرية بصوت (فيروز)، وهي تنادي على: (شادي).. إذ يبدو أن الشاعرة قد شكلت في قصائدها: (شاد) يتموه فوق عشبها وامتداد حقولها - هارب ومقيم في أعماقها، حالمة ومترددة في أعماقه.. بينما السنون تركض بالإنسان، وبالوقت الذي يفقد حصيلة الزمن.. وركض السنين لم يكن إلى ضفة أخرى، بل إلى زمن مستقطع، قد تختصره في لحظة، أو التفاتة، أو غشقة مطر:
* (بقدر ما حلمت بالصحو وأقواس قزح
كانت الأمطار غزيرة
وأحضانهم: شائكة
* (كنت أجمل مما يتبقى.. ربما
فرفضتني الفكرة
وكرهتني الكائنات)!!
* * *
* هذه الشاعرة: تغرس القصيدة - زهرة، وتنادي الضفاف الأخرى- الوطن لتتحد
إنها إنسانة هذا العصر.. هذه المعاناة.. هذه الأحلام التي أفسدتها القوة والقسوة.
إنها شاعرة: تكرس هروبها من المدينة الصاخبة، والوجوه ذات الملامح المقطبة أو الباردة، فتنادي على المطر.. وقصائدها في أكثر صورها مغسولة بحبات المطر، منتعشة بحلم الإنسان أبداً!!
إن (الشاعر) في لوحات- سوزان عليوان يتشكل من حلم، وقضية، وأشواق لا تبرد.. وتحزم هذه القواعد: توجهاً فنياً أرادت الشاعرة من خلاله أن تعكس معاناة الإنسان اليوم، بجانب (حلم) الإنسان فيها الذي يخاطب: (الحب بألوانه السبعة):
- (حين اقتربت
كان القمر البرتقالي قد انخفض
كثيرا على سور الحديقة
كاد يلامس النخيل ونعاس المصابيح
وكنت أعي تماما
ان المطر أقوى مني)!!
* صورة، مشهد، لوحة.. فمن كانت همومه: انخفاض القمر البرتقالي، والمطر الأقوى منه.. إنما يصور هذا (الجمال) المتطابق الذي لا يفرق ولا يفصل بين الواقع والحلم، لكنها الصورة عند الشاعرة.. تنطبق عليها عبارة شاعر معاصر، قال:
- (يحلم الشاعر بتكوين بشرية جديدة، لا بكتابة شيء جديد فقط.. ذلك ان الكتابة في حد ذاتها هي: الجسد الجديد)!!
* * *
* عرفت الشاعرة (سوزان عليوان) مع انطلاقة أول مولود شعري شعوري لها، ذلك الذي وسمته بعنوان: (عصفور المقهى).. وكانت حينذاك تدخل عالماً رحباً ساحراً قد شكلته من: (التخيل، والأمل، والشفافية، والصدق.. فانعكست كل هذه الأحاسيس على لوحات الديوان.. فكأنها بهذه الروح الشعرية التي تقمصتها أوجدت نفسها بحقيقة الإنسان الأعمق في داخلها.
عرفت أبعاد تذوقها للشعر، وتلك الهزة التي تحدثها (رؤى) الشعر في أعماقها. لكنها كانت تفتش بجانب (الرؤى) عن الرؤية التي تكون من خلالها ملامح إنسان آخر يتلألأ فيه الشعور، وقد جرحها الصمت منذ وعيها على الحياة، وأنعشت ذلك (اللحن) الجميل الذي يقربها من الجمال كثيراً:
(أيها الوتر المشدود
من جذع قلبي حتى أقاص الغابات
أيتها العصافير العطشى.. يا كلماتي
في الضباب أضعت موطئ ظلي
كما يضيع عمر، حلم، حب
وطن من بين الأصابع)!!
* لقد تعمقت لغتها الشعرية في ديوانها الصادر حديثاً الذي أصرت أن تسميه: (كراكيب الكلام).. فهل أرادت رسم لوحات سرية أطلقت عليها عنواناً مغايراً، وربما مثيراً؟!
- سألتها: هل تحولت كلماتنا اليوم إلى كراكيب.. أم قصدت أن الكراكيب أصبحت في وقتنا الحاضر هي الكلام؟!
أم أننا عصفنا بلغتنا العربية وهبطنا بها إلى العامية والعجمى والجسد، فتحولت إلى كراكيب؟! أم أن (الكراكيب) صارت هي صيغة التفاهم بين الناس؟!
* عدنا إلى مرجع اللغة ولسانها بحثاً عن معنى (الكراكيب)، فلم نجد تعريفاً، ويبدو أنها ليست عربية في معناها المألوف، وأغلب الظن أنها من (كر) و(كب) فهي بين الكر والانكباب تعني: عدم الثبات، فجاءت (كركبة وكراكيب) على وزن مفعلة ومفاعيل.
* سألت الشاعرة سوزان أيضاً قبل أن تجيب عن سؤالي السابق:
- سؤالك: من كسر مصباح القمر؟! في مدخل ديوانك: لم يكن من كراكيب الكلام، لكنه بكاء صفصافة، وحذاء يطفئ نجمة، وحب تدوسه الأقدام، ومصابيح بردانة!!
- قالت لي: لم أتخل عن ضفاف الروح، ولا عبق الصفصافة، ولا وصوصة النجمة، ولا ارتواء المطر.. لكني (إنسان) يعيش كما صورت في زحام هؤلاء البشر المعاصرين:
- (على الشارع اليابس
مثل حب تدوسه الأقدام
وتطفئ في جلده السجائر)!!
* * *
* وتركض الشاعرة في (الشوارع التي تشبه الرغبات القديمة - بين البيوت والبنايات المائلة - حول سور الحديقة عبر الضباب).. وهي تبتكر لغة التصوير الحميمي لأعماق نفس الإنسان.. وهي تحاول أن تعدل الصور التي قلبتها لغة مضادة!!
a-aljifri@hotmail.com
| | |
|
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى
chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى
admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved
|