عند اللحظة الأخيرة*
|
*عيسى مشعوف الألمعي:
تصطخب في أعماقه شتى الأحاسيس، كالبركان الخامد، وبتدرج بدأت نوبات التفكير تتفتق في ذهنه، بين الكراريس والأطفال، مثل المهرج طيلة خمسة عشر عاماً، يزرع الحروف والأرقام في العقول المتكوّنة، لتفلح الآفاق وتينع سنابل الآمال، مما بدت له صفحات الأيام وكأنها بيضاء كلها، حتى إنه فقد رونق الألوان الأخرى، تشبع من التكرار الممل، خط سير واحد لحياته يسلكه دوماً.. يبرز له فجأة شيء صغير قاس يلغي الآمال، يطفئ بريق العيون، يدفن الحياة حين تبدأ.. تبدو الأمور مقلوبة عنده تماماً..
عندها يخرج (عامر حسان) من غرفته يحمل الكآبة، ولهيب الحرارة، يتفكر في تفاهته، وضعفه، وضآلة شأنه، يتمتم مع نفسه بتعاسة وهو يسير:
- كأن لحذائي صوت يرن على الرصيف كئيباً، كأفكاري الصغيرة..، يلجأ إلى السواك يشوص به أسنانه، عسى فيه امتصاص لتفاهته، ورتابته، يتقدَّم بخطى وئيدة إلى البائع يجده مغموراً بسعادة يفقدها، تذكر.. هناك مستقبل ينتظره، البيت اللامع، الزوجة، الأطفال، وأشياء أخرى مشبعة بالدفء، يأخذ بالسواك، أصبحت أصابعه أكثر عصبية، ليست كالتي تحتضن الطباشير بلطف كل يوم، والسواك ما يزال ينقب في أسنانه، يهرس به شفته الرخوة، وتداعى في ذهنه أن عمره كله ليس أكثر من عود سواك يابس آيل للرحيل يوماً، أحس بضيق في تنفسه، لعل غبار الطباشير ورائحة حبر الأقلام السائلة قد سبّبا له حالة من الربو المزمن، أخذته نوبة سعال عارمة، سأل نفسه في حيرة:
- لماذا الآخرون..؟! إنهم أصحاء! وملابسهم جافة ونظيفة كالصابون..، واكتسحه غضب أحمق، لقد كان يود أن يحكم تلك الحشرات المتسلقة في غرفته، لقد بدا له وكأنها تمتص حياته كالعلق، ونفس الوجوه في الشارع كانت تلتقي به صلبة متماسكة، أو تجعله يشعر بالهشاشة والهرم، وتبادر إلى ذهنه أن تلك الوجوه لا تزال تنمو أما هو فقد توقف عن النمو إلى الأبد، يلجأ إلى (المتنزه الشعبي) متكئه الدائم، ومفرغ مأساته مع الأصدقاء، لكنه لا يجد مبتغاه. تمتم في شرود ذهني:
- يظل الفرح مفقوداً..، لم تبعث فيه سحنة المتنزه ذلك السرور الأزلي، كانت الكآبة لا تزال تجتاحه كالإعصار، لقد أصبح أثرياً في متحف مهجور، للمكان رائحة تجري مع الهواء المشبع بأنفاس متعبة. وغمغمات الحناجر تتصاعد حوله، يتناول الشاي، وتنهداته تتعالى وغاب في خضم التأمل، يبصر ذبابة قادمة تحط على فنجانه، مما بعث في نفسه القرف والغثيان، وتحسر لتفاهته، لكنه شعر بقيمة التحرر من القيود كتلك الذبابة، لماذا ينتظر.. ولماذا الانتظار..؟ سقط السؤال في داخله بشكل مباغت، صار يجرحه مثل سكين حاد، تحولت كآبته الصفراء الباردة إلى غضب جارف، فدفع فنجان الشاي بقوة، بحركة عصبية، فهوى على الأرض، تحطّم بصخب، دبّت الحياة في القطعة الأثرية المهملة، وأومض في داخله ألق صغير مبهج، نظرة متفائلة مددت حالة التحول فيه، حالة أصابته برعشة غامضة، عادت قدماه تنزلقان على الرصيف، بعد أن خرج تائهاً، وفي هذه المرة كان لوقعهما معنى تسلَّل دافئاً إلى أعماقه، عاد إلى غرفته ليلاً كانت تملأ المكان أشعة بيضاء كالحليب، امتلأت الغرفة برائحة نهار جديد، كان يود أن يستمتع باللحظة الفريدة، كان متشوّقاً إلى الانتصار ولو مرة واحدة في حياته المنزعة بالهزيمة..، وفي اليوم التالي، خرج من غرفته، يصل المدرسة، ينفذ بحسه إلى أعماقها، يجابهها، يحس بصمتها، يتخطى نظرات الأبواب، استقلته عفوية المكان، جابه المدير.. يستمع لتوبيخه وقسوته وهو صابر، ينتظر اللحظة.. لحظة التفجر.. (تقديم الاستقالة)، ولكن تراجع شيء ما في أعماقه، وانكمشت شفته في ألم، لا يدري عامر حسان. لماذا أحس في تلك اللحظة البليدة أنه عجوز، يتلاشى مع نهايته وخيبته، ولم ينبس إلا بجوابه المعهود:
- لا تؤاخذني يا سعادة المدير.. واستدار في صمت، وقد انطفأ الأفق الكاذب.
وككل مرة كان وقع قدميه رتيباً لا معنى له.
* من مجموعة (الناس)
| | |
|
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى
chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى
admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved
|