رائحة المقهى*
|
*حسن عامر الألمعي:
لم يكن مستغرباً هطول شخص ما علينا في ذلك اليوم بحكم العادة التي جرت منذ أن وطأت قدماي هذا المكان الموبوء بكل الوجوه المتناقضة حتى في قضم الوقت، فشدة الأمطار في الخارج سبب مقبول لاقتحامه طقوسنا المعتادة من تحليل لمباريات كرة القدم إلى شجار في السياسة ثم شتم لشركات الخدمة العامة و.. و..، حتى هيئته الغارقة في الذبول مرحب بها في مكان كهذا، ولكن الذي جعلني أرتشف خيوط الدخان التي يطلقها الجميع خارطة الدهليز التي ترسم وجهه؛ ففمه ممتد إلى الأمام مع انكسار لليمين وكأنه لم يستقبل الأكل منذ مدة، وعيناه تتدحرجان كل في فلك خاص يوحي لك بالتفرّد، أما الأنف فلم يكن كاملاً فهو لا يحمل إلا النصف العلوي، وشتات من الشعر الصحراوي يتوزع على الباقي، استدار حول نفسه عدة مرات وكأنه يطرد أرتالاً من الماء الذي تلبسه، نفث في يديه وأخذ يصعد من طلاسم زرعت الوجوم في المحيطين به.
موجات المطر لم تتوقف عن زعزعة ثقتنا ب(الزنك) الذي سلبته السنينُ جل تماسكه، وثقتي بدأت تحثني على سؤال عن كوب الشاي الذي لم يمسه رغم أنني وضعته بجواره قبل ساعات ولم ينقص منه قطرة واحدة، حاولت تقمص دور المحقق الذي يسحب الإجابة من أعماق الشخص المتهم في لحظات، فحورت الحوار إلى إشارات بوليسية من تقديم النظارة إلى طرف الأنف مع إرسال زخات من التحديق المركّز، إلى وضع اليد على جيب الثوب وكأنني أضبط جهازاً ما، عندها لم أصدق أنه انتبه لي، فزدت الجرعات مع ترميم للكلمات التي سأبدأ بها معه، تسرّب الارتباك في أوصاله، وبدأ يمسح المكان ويلملم أقدامه المرتخية، هبّت نسمة من الخارج فأزاحت ما تبقى من ستر لديه وأعطته السبب المعقول للوقوف بسرعة مما أشعل فتنة كنت أخشاها من البداية، فتعثره في (لي) شيشة شيخ المقهى (أبو عمر) وقطعه حديث الذكريات الذي يصبه فوق رؤوسنا كل يوم أدى إلى تصادم بكلمات لا يمكنك سماعها في مكان آخر، ولولا تدخلي بالطريقة المعروفة في موقف كهذا لتطور الوضع إلى حرب شاملة يدفع ثمنها الجميع في غرفة التوقيف ليلتين على الأقل.
بعد أن استتب الأمن قليلاً وسارت الأمور كما خططت، استعنت بأعضاء جدد في فك رموز تكوره تحت الطاولة مع أن أنينه ولعناته المتفاوتة كانت تتسيد الأجواء إلا أنها لم تثننا عن مساعدته، فليس من المعقول أن نرى أنهار الدم تغادره والجمر يتوزع على جسده بعدل مذهل ونلزم الحياد. بعد أن قذفنا به في مؤخرة إحدى السيارات المارة ولفظته بدورها بين يدي شخص أكَّد لنا أنه من فئة الأطباء تمتم بشتمي ومن معي على سوء الهدية في وقت همَّ فيه بالمغادرة لينام بدون كوابيس كما قال، أوثقه بأطنان من الجبس تكفي لاعتقال فرقة جيش كاملة ثم تفحص وجوهنا ليلقي قنبلة فيها:
- من منكم سيرافقه..؟؟
- .. أنا..
كنت أُشير إلى صدري بلوم شديد على هذه الشهامة المزيفة فلم يسبق لي أن وضعت نفسي في موقف مشابه ولكن لا مجال للتراجع وخصوصاً أن الطبيب لم يصدق فأسرع يأخذ توقيعي على المهمة المفاجئة.
والذي لا يمكن نسيانه كمية القيء التي أمطرني بها بعد أن سكنت أرجل الممرضات ذوات العيون المخبأة عن طرد النوم المتكدس في جسدي، فتكفل سعاله المزمن في جعلي أسبح في سوء عملي.
بعد أن هاج كثور إسباني ووزع الصرخات في وجوه المرضى كل حسب مكانته أعطاني ما استحق حسب رأيه من الغلة، انقض الطبيب على الجبس الحاضن للرجل اليمنى فشتته في ثوانٍ جعلته كالعدم تبعها باليسرى، حتى نفثتا الألم والروائح التي أجبرت الفضوليين على ترك المشهد برمته، تمادى مشرط الطبيب في الغوص حتى إن اللسان الرابض كحجر ملقى، بدأ يتوالد شعارات وهذياناً جعلني أشك في عقلي وسمعي فهو يصيح:
- .. سنرميهم في البحر.. سنرميهم.. في.. سأرميهم..!!
ثم يغيّر المشهد.
*من مجموعة (المتشظي)
| | |
|
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى
chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى
admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved
|