استراحة داخل صومعة الفكر رذاذ الضوء عبدالله سليمان الخريف سعد البواردي
|
ما أحوجنا ونحن نعيش ليالي العتمة الى ضوء.. بل الى رذاذ ضوء في آخر النفق يفضي بنا الى فتحة نستنشق من خلالها هواء نقيا نملؤ به رئاتنا.. ونبصر من ضوئه مواقع راياتنا كي نرفعها من أجل ان ترفعنا صمودا نحو سماء الانعتاق والاشراق.. ومكارم الأخلاق..
وإذا كان الرماد هو من معطيات المطر أكثر منه للضوء الذي نتقبله من شاعرنا برحابة صدر معتذرين لخيوط الضوء هذه المرة من اغفالها واهمالها لأن خريف الخريف قد يبدو قاسيا على البصر وحده وليس على البصيرة التي بدونها لا يشفع الضوء لرؤية أيا جاء رذاذه.. وأيا كانت خيوطه..
يستهل شاعرنا ديوانه بقصيدة «لا تذهبي» التي ذكرتنا بقصيدة نزار قباني «لا تكذبي» هل يلتقيان عند رؤية واحدة يتحكم الشك في زواياها؟ لننتظر..!
«لا تذهبي.. فنحن في أنف اللقاء
في الصفحة الأولى من المساء»
وما دام في بدايته.. ولأن اللقاء خطاب ورسالة عشق وددت لو ابدل مفردة «أنَفَ» ب«أَلِف» أي بداية شاعرنا لديه شهية الشواء.. انه جائع إلا انه لحسن حظنا معه لم يخرق ملاءة الحياء.. ولكنه يستعجل الوقت قبل فوات الأوان.. قبل ان تذبل زهور العمر: لماذا كل هذا..؟
«لأننا ثمالة القدر
وليلها سيدتي لو انجم فيه
ولا ضوء قمر»
هو لا يرغب البقاء في أسر رجع الهمهمات دون ضوء يكشف له زوايا قلبه وجوانح حبه.. انه يستمطرها برذاذ نداءاته طالبا منها ان لا تذهب.. تذهب الى أين؟ لا أدري.. وأتت من أين؟ لا أدري؟ ولماذا جاءت أيضا؟ لا أدري؟.
لعل وحده يكشف لنا المستور.. ويبوح لنا بالسر..
«لا تذهبي.. ليلتنا لم يستعر اوارها
وانني سيدتي أرغب في استمرارها
لأنها وليدة لم يستو احمرارها»
واخالها ذهبت دون جواب..وأبقت لشاعرنا الحصرم يجتر على اجتراره..
«هي أزهى».. لا يهم.. لعلها البديلة.. أو الحلم الذي ما زال يراوده دون رذاذ ضوء.. أي دون نهاية ما لنا وللحكاية.. في الفخ أكبرمن عصفور يبدو أن صيده الثمين على مشارف رؤيته.. يخاطبها بعبارة الواثق
«ستبقين لي»..
«ستبقين لي برغم الظروف
وكل الصروف.. ورغم العذاب بشتى الصنوف»
ركام وتكثيف للمفردات لا يوصل الى نتيجة ولا يعمر بيتا للسكن.. ولا بيتا للشعر أيضا.. بنفس التقريرية والمباشرة يعيد شاعرنا الخريف نفس الرقم من الكلمات والنداءات.. أين هي؟ وأين صوتها؟ لا أثر لطيف حبه الهارب.. فعقارب ساعة ارتدت الى الوراء.. وتجمدت عند خانة الصفر لأن شتاء.. وخريف الخريف تحت درجة الصفر..
حمدا لله.. لقد تحررنا من كابوس الظلمة.. وصقيع الحب الهارب.. الى ضوء القمر بكل ما يوفي به من سمر وسهر:
«وعند المساء يطيب السمر
وفي دفتيه يطل القمر
ونحن ركود وغير ركود
نداعب فينا رؤى حالمة فيه تحب السهر»
الرؤى وحدها يا عزيزي لا تكفي.. أين هي الصورة التي نتغلغل في أعماقها كي تسلبنا مخاوف النهاية؟ التمني في الحب الضائع مثل التغني في السراب.. لا تشفع فيه مفردات لعل.. وليت.. ولا تنفع:
«لعل المساء. وضوء القمر يدوما طويلا
فنبعد عن بارقات السحر
لننعم في فسحة هانية
نداعب فيها جميل حياة»
أمنيات.. تموت في زحام ذكريات خيالية لا تشفع لها أبيات شعر.. لأنها وحدها مجرد قصيدة حب لم يولد بعد.. نتجاوز رفيق شاعرنا الرقيق لما هو أهم.. علنا نعثر عليه من بين تجاويف وحنايا مشاعره.. لعلها بالصدفة كانت أمه التي وقفنا أمام مرقدها الأخير في خشوع لا تنال منه كلمات رثاء:
«أمي. أمي. يا أحلى نغمة
فاقت طعم الشهد.. أقسمه أنكِ يا أمي
أعذب نسمة.. فتحت باب السعد»
إنها أعظم ما في حياته.. وهي كذلك.. وأغلى ما في دنياه وهي كذلك.. كيف لا وهي التي تجوع ليشبع هو.. وتظمأ هي ليرتوي هو.. وتسهر هي لينام هو.. أم ككل الأمهات في دنيانا تعيش بنا.. ولنا. ومن أجلنا لا يقدر أحد على ايفائها حقها.. كيف لا يحزن من أعطته كل حياتها بعد ان ودعت حياتها ورحلت؟!
«أمي. أمي.. قالوا ماتت أمك يا أمي
فتهاوى مني الصرح.
وانكسرت يا أمي في كوني وبذاتي شجرات الدوح
وبكيت كثيرا يا أمي في السر وفي البوح
وخلتك يا أمي جسم ملاك عطره أروع فوح»
رثائية حزينة هي بحق خريف الخريف الذي لا ينفع معه ضوء قمر.. ولا دفء نار.. ولا مناجات سمر.. الأم عندما تغرب شمسها تبقى الأشياء من بعدها عارية.. وغاربة لا تعوض بأم أخرى.. لأن الأم واحدة.. على جادة كلماته.. ومعه نتحرك حيث يحرك عقارب زمنه في اتجاه لافت للنظر.. حيث «رذاذ ضوئه»
ماذا يعني؟!
كل ما في شعر شاعرنا مناداة.. هل يشفع لنا هذه المرة باجابات تخفف من معاناة ادلاجنا.. واحتياجنا الى بناء شعري عضوي غير أحادي المنبر والخطاب؟!
«يتحدث عن مخاض انتظاره.. وعن ذكريات تتوازعها محطات الحياة الثلاث الغائبة.. الحاضرة.. القادمة.. ويتيه في بحر الخطاب الشعري يكاد يغرق لولا ان نجوما برقت في السماء امطرته برذاذ ضوئها استشعر معها.. واستجمع معها أنفاسه:
«يا نجوما همت مثلي في تلاقيف الازل
وصخورا مشبعات في دروبي بنبتات الأمل
وسياطا كررت لي نذرها ان ارتحل»
وارتحل على وقع السياط.. سوطا تلو الآخر الهبت ظهر جمله الذي يتحرك على حادة وعرة تزحف حولها الأفاعي الراعفات التي لا تُمل!!! ما هذا يا شاعرنا.. أية رحلة خطرة أخذتنا اليك معها.. الافاعي نحل رؤيتها.. تطلع اليها وحدك.. اشعر يا عزيزي أنني انتظرت منك رذاذ ضوء نتوضأ به ونغسل منه ما لحق بقافلتنا من اجهاد دون ان أجد..
هذا أنت.. ترى ماذا عن «وهذا أنا»؟
«رأيتكِ عشقا عميقا
وحبا.. وهالا جميلا
ومرأى. ونصبا
وشيئا غريبا.. أراه مزاجا
تحول حتى تصير ذنبا»
«هالا» مفردة مؤنثة.. أنسب منها «طيفا أو حلما أو شيئا» ولكنك أفسدت علينا فرحة عشقك ومواصفاته بذلك النصب المزاجي الذي أقحمته وحملك على ان تثيره بصحبك في شعرك وصحبك في رحلتك.. أشعر أن شاعرنا بتكثيفه المفرط للكلمات في قصائده أربك الصورة.. بل وحجبها وأبقى لنا مشاركته في صدمات الرحلة بين وعيده ووعوده..
بين مده.. وصده والصد على صده:
«أرى الصد منكِ لدي مميتا
وهجرك شيئا مخيفا. ورعبا
فبالله يا ذي خذيني برفق
ورقي لحالي نحولا. وغلبا
فإني لهش لديكِ.. رهيف
تحول شعرا. وعشقا. وحبا»
الى هذا المستوى من التسول والتوسل والضعف أناخ ركبه أمام أقدام حبيبته.. ناسيا أو متناسيا تحذيره لها قبل لحظات:
«ولكن حذار ففي الناس ناس ترى الحب قسرا
وظلما وغصبا.. وحينئذ سوف يارئتي
تدرين عجبا.. وسوف تعين بأني قوي
وإني أخيف الأسود الأسود
وجنبا مع السطو أخشى المغبا»
يبدو أنك يا شاعرنا تنازلت عن كل كبرياء الحب.. ولم تدع تخيف حتى الأرنبة بعد ان بلعت وعيدك وأبقيت قصيدك ينزف دما ودموعا لأنه يخشى.. «المُغبا» ولو أنه خشي «المخبا» لكان أنسب..
يتحدث الصديق عبدالله الخريف هذه المرة عن صاحب الجرة.. وفي ذهن كل واحد منا ذلك المثل «ما كل مرة تسلم الجرة» هل أنها سلمت؟. أم أنها استسلمت لنهايتها؟!
«ورأيت امرأة مرة
وعلى منكبها جرة.. وأنا عطيش!
اسقيني يا هذي.. من هذي
اسقيني مما في الجرة»
لا أدري من أين جاء شاعرنا بكلمة «عطيش»! ماذا عن عطشان إنها لا تخل بتوازن «الشطر».. وهي الأصح..
«صمتت.. ومع الصمت دنت.. وتدنت
فأشاحت تربا.. وأباحت تربا
وعلى التراب ادارت لي عنق الجرة»
وشرب من الزِّق كما يقول رحيقا من ثغر جرتها لا من ثغرها هي.. راح يمصمص على طعم ومذاق رحيقه شفتيه الظامئتين.. طالبا منها أن تسقيه مرة ثانية كي تقتل ما تبقى لديه من عطش.. انتهت الحدوته الشعرية وبقيت الجرة سالمة..والفكرة تعاني من الصدع..
«حوار النكرة» اتخمنا من الحوارات التي لا تؤدي الى نتيجة في كل وسائلنا الاعلامية.. صراخ يقابله صراخ.. قابل الصياح بصياح تسلم.. والحوار الشعري في بعض حالاته يأخذ نفس المنحى الذي لا يفضي الى معنى وبالذات عندما يكون «حوار نكرة» نتجاوزه.. كما نمر مرور الكرام أيضا على «إنني ولكن» و«عودي» لأني أدرك في النهاية كما عودنا أنها لن تعود كسابقاتها.. نتمهل في خطواتنا على وقع شعره في مقطوعته «تمهلي»
«أنت جميلة. حقا أنتِ كذلك
وتقاسيمك فعلا قالت ذلك
حتى الجغرافية في وجهك
قد رسمت للهاوين جمالك
لكن.. لا تغالي فأنا فوقك يا واحدة
أية واحدة من حواءات الف
أعرف غيرك
أنتِ مجرد واحدة من مليون سلعة»
رغم جماليات صورتها اللفظية.. إلا ان مضمونها الوجداني أناني مستكبر وغير أخلاقي في حق المرأة.. المرأة ليست سلعة تباع وتشترى كما تباع البقرة وتشترى.
«إنتِ مجرد انثى. تتعالى في لحظات.. وبلا وعي»
والرجال أيضا يا صديقي.. بعض الرجال لهم نفس الصفات.. ونفس المواصفات.. لماذا هذا التحامل والتجني.. من حقها ان ترفض حبا مغشوشا لا يرى فيها إلا أغنية.. أو فراشة أو شيطانة في شكل أنثى.. ونبتا اسقي من حانه.. لن يعنيها رعبك المزروع في كل مكان.. لقد أفسدت عليها كل خيار.. وأوصدت أمامها كل باب.. إلا باب ان تقبل بك.. رغم هذا الطغيان في تحديك وتهجمك أشعر ان السرد اللفظي الشعري رغم خشونته كان الأجمل من بين قصائدك لو أن طرحك للصورة لم يخرج بهذا الشكل الاستفزازي الصارخ الفوقي الذي نصب من نفسه زير نساء يرى في النساء مجرد رغبة تشترى من أسواق الشهوة.
ضوء القمر مررنا به.. والبدر العاشق يدور في فلك ضوئه.. لا جديد في الأمر.. ربما نلقاه هذه المرة «في دكان الحلوى» فنحن وشاعرنا في حاجة لأن نحلي أفواهنا بحلوى لا تصيبنا حلاوتها بالبلوى إذا ما كانت مغشوشة:
«في أحد الأسواق.. وفي سوق الحلوى
جاءت.. واتباعت..
وأنا مشدود.. ليس أمام الحلوى
ولكن ممن حمل الحلوى»
كيف الوصول اليها.. ابتسامة كانت كل أدوات خطابه.. تفاهما برموش العينين لا بنظراتهما.. لأول مرة تتعطل لغة العيون وتتحدث الرموش متعارضة في بيت شاعرنا العربي الابداعي
وتعطلت لغة الكلام فجاوبت
عيني في لغة الهوى عيناك
رموشه تتحرك.. تخترق جسدها.. قدها.. وهجها دون أن تجرح.. وبفصاحة الرموش يسألها. من أنتِ؟ أين السكن؟ الهاتف؟ أعطى لها قصة تحمل اسمه. ورسمه وبأسفلها عنوان البيت ورقم الهاتف.. وينتهي غزل الرموش كما هي العادة بلعل.. وليت.. هذه المرة.. كان عنيدا الى درجة أنه أطلق ألف لا.. من فمه.. نعم من فمه:
«فيك أصداء لهاثي
وانتكاسات نكوصي
وارتداءات ابنعاثي
حطمت سور الزمان»
ماذا بقي لشاعرنا.. لا شيء البتة بعد ان احترقت الأوراق الخضراء. واخترقت سحب الحيرة واليأس أعماق الأعماق:
«قصة تحكي لمن يأتي بعيدات الخطل
ألف لا إن أُخيَّر. ألف لا. ألف لا ألف لا»
أين هي القصة؟.. لعلها قصة لاءات لا توجد فيها نعم.. ولا نعم الله عليك.. ما هكذا يا صديقي تصاغ الصور الشعرية.. وما هكذا ترسم.. وأخيراً.. مع محطته الأخيرة التي نطل منها على «اطلالة» شاعرنا الخريف وقد ابحر في زورق خشبي صغير راح يجدف بمجاديفه..
كانتا روحين.. روحه وروحه حول الشاطئ يجدف بهما زورق الحب قبالة كوخ ثمل!! اكتشفنا ان الكوخ ليس كوخا.. ولا النهر نهراً.. ولا الليل ليلاً.. ولا البدر بدراً.. ولا كل الأشياء أشياء.. غريبة تلك المشاهدات الحمية.. تبدلت المشاهد فجأة كما لو أنها فصل تراجيدي أعقبه فصل كوميدي دون إخطار:
«تمازج كل بهذا. وذاك
كأن الجميع بقايا أثاث
تراءى ومن غير أي انتظام. أو همم كقطيع
تصارع حتى ضناه العراك
وأضحوا جميعا بدون حراك»
حتى نحن يا صديقي أصبحنا نتحرك وسط غابة ملتفة متداخلة الشجر لا نملك فرز غصن عن آخر.. ولا نبتة عن أخرى.. فيها اختلط كل شيء.. واختلف كل شيء.. إلا شيء واحد هو ان رذاذ الضوء ما زال حبيسا تحجبه الغيوم.. فلا نحن معك استمتعنا بدفئه كما عودتنا.. ولا نحن قطفنا ثمر بستانك الذي تنساب مياهه في جداول تائهة كما تتحدث عن ذلك آخر مقطوعات ديوانك «في البستان».. لك اعزازي.. وأملي أن يتفجر ضوء شعرك وأن يتوهج أكثر كما هو عهدي بك في ديوانك «تقول لي».. هذه المرة اسمح لي في صدق أن أقول لك:
اعد نظرا يا عبد قيس فربما
اضاءت لك النار الحمار المقيدا
الرياض ص.ب 231185 الرمز 11321
فاكس 2053338
|
|
|
|
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى
chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى
admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved
|