خواطر مرسلة من قديم أوراق الأديب الراحل عبدالله بن إبراهيم الجلهم رحمه الله أعدها للنشر أ.د. عبدالكريم الأسعد في مجال النقد الأدبي
|
كان حديثاً شيقاً.. ذلك الحديثُ الذي جمعتني بصاحبه إحدى الأمسيات التعارفية على غير موعد مسمى سوى أنه صديق يُلِم بأصدقائه عند فترات متباعدة ليبحث قضايا الأدب والاجتماع وما أفرزته الأقلام، وموائد الفكر عنها ولها ويُعنى عناية خاصة بمجالات النقد الأدبي وومتعرجاته الطويلة. قال لي خلال تلك الأمسية الهانئة وهو يلاحق أنفاسه ويكتم غيظه: إن النقد الأدبي في جوهره ضرورة أدبية لإحياء الأدب وتنميته وتمحيصه وتنقية مسالكه واتجاهاته وتقويم شخصيته وإحلاله بين الدارسين والباحثين محله الجدير به.. لكن للنقد الأدبي من الشروط والمؤهلات ما يتعين أن تتوفر بالناقد له لئلا يُستباح حماه وتتردى سلطته وشأنه بين الناس ولئلا يتحول بين أيدي بعض النقاد والشانئين بضاعة زهيدة وسلعة مزجاة يمتطيه بعضهم مطية سهلة يسوقها بعصا التسلط والعنف والتسخير إلى ميدان بغيض من الاغراض الذميمة بعيدة عن المنهج الأدبي والنقدي ونائية عن المنطق الموضوعي المتجرد عن كل ما يُردي الأدب ويشين الناقد إلا أن يكون نقداً نزيها عالما بقواعده وفنونه يخدم به الأدب ويخلص به للفن والحياة..
ومضى الصديق يقول: ألم تبصر عيناك ما تتوهج به صفحات بعض الصحف والمجلات من حين لآخر من إثارات وجرعات مُرّة نقدية؟ يحسبها الناقد المتوتر نقداً يزيد به رصيد الفكر ولكنه إفراز معتم يمجه قلمه وهو لا يمت إلى الفكر الأدبي والنقدي بأدنى صلة من القربى والجوار إلا ما تحمله من عناوين متورمة وحقول مزروعة بغير ما يتناسب مع التربة والمناخ النقدي من أصول النقد ومناهجه ومعارفه، وكأن مثار النقع فوق تلك الصفحات وتحت تلك العناوين ليلٌ حالك لم تتصوره خواطر «بشار الفقيد» ولا تأملاته في الحياة والأحياء.. لكنّ النقد عند بعض المستكتبين شطّ به المزار فأبعده عن محتواه السليم واستخدمه في نقائض ومصائب وأساليب لم تألفها أغراضه وحقائقه وتأملاته..
أقرأ ما يكتب وما يغلب منه في مجال النقد الأدبي، فما أجد أكثره إلا نقداً ذاتياً أسيفاً أملته نزعاتٌ شخصية أو تقلباتٌ وتصدعاتٌ فكرية لا تتسم بالتجرد الفكري ولا بالأمانة الأدبية ولاشك بأن للنقد الأدبي أغراضاً وخصائص ومقاييس لا يمكن أن تتحقق للناقد الملتزم إلا إذا توفرت لديه الحاسة الأدبية والنقدية والموهبة الفنية والاطلاع المثمر في أصول النقد وموازينه واتجاهاته.. وإلا إذا تجرد النقد والناقد من كل هوى وغرض شخصي ومن كل مؤثر عاطفي مهما تكن دوافعه وميوله واحتمالاته.. ذلك لأن النقد المتجرد المحاط بالنزاهة والموضوعية العلمية يستهدف قبل كل هدف آخر إحياء التراث الأدبي في ماضيه وحاضره ومن أجل مستقبله ويستهدف تقويمه وتصفيته من الشوائب وتعريته من المتسلقين عليه وإذكاء جذوته وإثرائه بالتجديد والتوسع واستجلاب الأنصار والمحبين والعاشقين له، وتزويد الباحثين والمهتمين به بمعطيات نصية ونقدية جديدة، تملأ الساحة الأدبية وتلونها بألوان تشخيصية جيدة تسهم في إحيائها وإبرازها بين يدي الأدباء والشداة والدارسين للأدب.. لأن الأديب مهما أعطى من فنه وجاد من فكره وتجربته فلا بد أن يكون للنقد النزيه المستبصر نصيب رابح في إنتاجه وعطائه وفي بحثه وتحليله لتتبين محاسنه أو لتبرز مساوئه بعد أن يوضع في الميزان النقدي المتجرد لينطلق بعد ذلك بانتاجه الأدبي المصفى إلى رحاب واسعة من الإجادة والريادة والشمولية والغرض الأدبي المأمول..
لقد قيل في تعريف النقد: بأنه «التقدير الصحيح لأي أثر فني وبيان قيمته في ذاته ودرجته بالنسبة إلى سواه».. والنقد الأدبي يختص بالأدب وحده وإن كانت طبيعة النقد واحدة أو تكاد سواء كان موضوعه أدباً أم رسماً أم تصويراً أم غير ذلك فالنقد الأدبي في الاصطلاح هو تقدير النص الأدبي تقديراً صحيحاً وبيان قيمته ودرجته الأدبية».
ولقد قيل عن وظيفة النقد الأدبي بأنها: «تبلغ إلى الناس رسالة الأديب فتدعوهم إليها وترغبهم فيها أو تصرفهم عنها وتزهدهم فيها، لأن النقد يدلهم على ما يحسن بهم أن يقرؤوه وعلى ما يحسن أن يفهموا ما يقرؤونه.. وهو يدل الأديب على الخطأ ليجتنبه وعلى الصواب ليزيد منه..».
وهذان القولان السالفان: يحسن بحملة الأقلام بيننا والمتصدين للنقد منهم والمُستكتبين فيه ان يقدروهما قدرهما، وأن يعلوا بأدبهم ونقدهم وإنتاجهم إلى الصواب والرشاد ويجنبوها مزلات الهوى ومساقط الغرور والهوان..!!
وبعد : فهذه خواطرٌ أمسيةٍ أدبيةٍ متاحة جاد بها الصديقُ الناقدُ على عجل ووجل وأرسلها إلينا نديةً مخلصة بعد أن وضع الرجاء والتفاؤل موضعهما العميق من نفسه، بأن تأخذ المفاهيم النقدية مأخذها الصحيح النزيه ليصبح الميزان النقدي الهائم سليماً من كل داء، معافى من كلِ عوجٍ وهوجٍ وانحراف.
عبدالله إبراهيم الجلهم
الرياض 12/5/1388هـ
|
|
|
|
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى
chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى
admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved
|