قصيدة النثر ليست هي سقف الإبداع الشعري العربي عبدالله السمطي
|
مع سطوع قصيدة النثر العربية في الاونة الاخيرة، واتجاه اغلب الاجيال الجديدة الى كتابتها، توهم كثير من النقاد والمتابعين ان قصيدة النثر هي السقف الابداعي الاخير الذي وصلت اليه الشعرية العربية، والقصيدة العربية في استقصاءاتها الفنية.. وهذا امر غير صحيح، كما توهم البعض ان قصيدة النثر هي امتداد لقصيدة التفعيلة التي هي امتداد بدورها للقصيدة العمودية.. وهذا ايضا امر غير صحيح.
قصيدة النثر ليست امتدادا للشعرية المعروفة بشكليها العمودي والتفعيلي، قصيدة النثر حالة شعرية خاصة، لها مفاهيمها الجمالية الخاصة بها التي ولدتها مما هو شعري ومما هو نثري. هي قصيدة تمشي على الحافة، وعلى حد السيف الجمالي الفاصل بين الشعر وبين النثر، والجامع بينهما في آن واحد.
ليست قصيدة النثر سقفا للابداع الشعري العربي، والنظر اليها على انها هي الحد الاخير الذي وصلت اليه الشعرية العربية، نبع من خلال كتابات ادونيس وغيره من شعراء الحداثة الذين يرون انه لكي يكتب الشاعر العربي قصيدة النثر لابد ان يمر بالتجارب الشعرية الماضية، وان يكون اجاد ونبغ في القصيدة العمودية وقصيدة التفعيلة حتى يتسنى له كتابة قصيدة النثر.
ان المسألة لا تستوجب هذه النظرة الرأسية للابداع، وان القصيدة العمودية هي الماضي البعيد، وان قصيدة التفعيلة هي الماضي القريب، وان قصيدة النثر هي التي تتسنم اليوم ظهر الشعر العربي. فهذه في تصوري مفاهيم مغلوطة، تسببت فيها آراء ادونيس وشعراء مجلة شعر، كما تسببت فيها حركة النقد العربي السلحفائية التي لا تواكب حركة الابداع المتسارعة.
2
ان للقصيدة العمودية استقصاءاتها الخاصة بها، التي تأخذ من وحدة البيت هدفا جوهريا لها، تصوغ عبره، وتشكل، وتصور صورها الخاصة، والشاعر المجدد في هذه القصيدة لن يخرج ابدا عن هذه الوحدة: البيت الموزون المقفى، واذا خرج فانما يتجلى ذلك في نظام الموشح، أو المقطوعات، او القوافي المتغيرة، على نطاق الشكل، او يدخل الى اللغة اليومية، والمضامين الجديدة، وايقاع الحياة العصري المختلف.
وقد بلغت القصيدة العمودية ذروة التجديد فيما قدمته المدرسة الرومانتيكية العربية مع جبران خليل جبران، وخليل مطران، والشابي، وبشارة الخوري، وعلي محمود طه، وابراهيم ناجي، ثم مع القصائد العمودية التي قدمها كل من نزار قباني، وعبدالله البردوني. وسوى هذين الاسمين الاخيرين الراحلين لا يوجد شاعر عربي واحد استطاع ان يجدد في القصيدة العمودية لا عبر التخييل ولا التصوير ولا المضامين، وحين نجد ذلك في شكل شعري تليد، فمعنى ذلك ان هذه القصيدة ماتت، واصبح ما يكتب منها اليوم بمثابة كتابة الموت، فهي تكرار واستنساخ لما كتب سابقا. على الرغم من انتشار هذا الشكل في عدة اوساط ، الا انه من الوجهة الفنية مات تماما.
اما قصيدة التفعيلة فلم تكن بداياتها محلقة في اجواء بعيدة عما قدمه الرومانتيكيون العرب، لكنها بمرور الوقت اكتسبت ارضيتها ومشروعيتها، وبلغت ذروة استقصاءاتها في السبعينيات والثمانينيات تشكيليا وتجريبيا ودلاليا. وشعراؤها الكبار المعروفون كل له نسيجه الخاص، واتجاهه الشعري الذي شكل مدرسة شعرية بحد ذاته. ومع هذه الكثرة التي كتبت قصيدة التفعيلة الا انه يبقى منهم 10 شعراء فقط تتباين اتجاهاتهم وخصائصهم الفنية وهم: السياب، صلاح عبدالصبور، امل دنقل، محمد عفيفي مطر، البياتي، نزار قباني، سعدي يوسف، محمود درويش، خليل حاوي، ادونيس. اما باقي شعراء التفعيلة فهم مجتهدون جدا، ولهم تجاربهم المختلفة المتميزة، لكنها ليست تجارب فارقة شعريا، وهي تجارب قد نلمح فيها بعض اللفتات الجمالية، وبعض الصور والالتماعات، لكنها تبقى نهاية الامر عالة على ما يقدمه هؤلاء الشعراء، وعلى الرغم من الانساق التجريبية التي بزغت لدى شعراء السبعينيات والثمانينيات في العالم العربي، فان تأثيرها يبقى محدودا جدا بالمقارنة بتأثير هؤلاء الشعراء الرواد في اي جيل وفي اي حركة شعرية قادمة.. لقد صرح احد شعراء السبيعينيات في مصر بالقول في احدى الجلسات الخاصة: انني حين ان اكتب قصيدة حداثية احضر دواوين ادونيس، وسعدي يوسف، ودرويش، وعبدالصبور ومطر واقوم بقراءة معظمها ثم اشرع في كتابة القصيدة التي لا تأخذ مني عقب ذلك الا ليلة او ضحاها. هذا القول يشير الى العالم الخفي في انتاج القصيدة التفعيلية الحداثية، ويشير مرة اخرى الى ان التجريب الشعري انتج حركة شعرية مزدحمة الاصوات، لكن ان يعبر الشاعر سن الخمسين ولم يعرف تجربته سوى زملائه الشعراء، وان يوزع بالكاد 50 نسخة من ديوانه فهذا دليل على مأزق شعراء التفعيلة اليوم، والمأزق ليس بالضرورة لدى الجمهور.
ولقد استوعب الشاعران محمود درويش وسعدي يوسف الحالة الراهنة للشعر فاقتربا جماليا من الافق الشعري الراهن الذي تهيمن عليه قصيدة النثر، واستلهما النسق الجمالي والدلالي لهذه القصيدة التي تركز على الهموم اليومية، ومألوفية الصورة واعتياديتها، والتفاصيل البسيطة العابرة، والهامشية. استلما ذلك وانتجا عبره دواوينهما الجديدة، دون التضحية بالاوزان العروضية. قال سعدي يوسف في أحد الحوارات التي اجريتها معه:« اهدف الى تخفيت الايقاع تماما» من هنا قدم سعدي يوسف:« جنة المنسيات» و «شجر ايثاكا» و «ايروتيكا» وكل خانات العالم من جلجامش الى مراكش «وقدم درويش:« لماذا تركت الحصان وحيدا» و «سرير الغريبة». هذه الدواوين علامة على امتصاص قصيدة التفعيلة لما يقدم في قصيرة النثر، وهذا الامر هو الاستقصاء الاخير لقصيدة التفعيلة، وربما تكون هناك استقصاءات اخرى، اذ لم يعد مقبولا اليوم ان تستمر قصيدة التفعيلة لما يقدم في قصيدة النثر، وهذاالامر هو الاستقصاء الاخير لقصيدة التفعيلة، وربما تكون هناك استقصاءات اخرى، اذ لم يعد مقبولا اليوم ان تستمر قصيدة التفعيلة في انغلاقها التجريبي الذي تجلى على يد الشعراء السبعينيات والثمانينيات في العالم العربي.
3
قصيدة النثر ليست امتدادا لتجربة شعرية اخرى، لانها جاوزت في ارهاصاتها الاولى مرحلة الاحياء الشعري والمرحلة الرومانتيكية عبر:« النثر الفني» و «الشعر المنثور» ثم جاورت قصيدة التفعيلة عبر المسمى:« قصيدة النثر» الذي اطلقه ادونيس في العدد 14 من مجلة شعر «1960»، هذا التجاور ينفي ان تكون قصيدة النثر امتداداً للشعرية العربية او هي مستقبل الشعر العربي، لانها شكل شعري قائم بذاته منذ قرن تقريبا.
هي أحد اشكال الشعر العربي، قد تكون قصيدة التفعيلة باتكائها على البلاغة العربية الموروثة، وعلى العروض العربي امتدادا للقصيدة العربية التقليدية، لكن قصيدة النثر، اليوم لا تستخدم البلاغة الشعرية المعهودة، ولا تستند إلى العروض العربي، ومن ثم ليست امتداداً لاي شكل شعري آخر.
قصيدة النثر ولدت مفاهيمها الخاصة بها، استثمرت عامل الرؤية، واستثمرت الفن السينمائي باللعب على المشهدية، والفن القصصي باللعب على السرد. واستلهمت بعض المضامين الشعرية في قصيدة التفعيلة، لكنها لم تكن صدى لها. قصيدة النثر العربية قصيدة نابعة من رحم اللغة العربية بطرفيها الشعري والنثري. لها مجازاتها الخاصة: المجاز المشهدي، او السردي، او التقريري اذا صح التعبير. ولها ايقاعها الخاص الذي لا يتكىء بالضرورة على متحرك وساكن، بل على الايقاع النفسي الداخلي للقصيدة، وهو ليس ايقاعا ماديا ملموسا بل محسوسا.
هي قصيدة تقدم بلاغة جديدة تماما تحتاج إلى الرصد والتحليل النقدي، وتحتاج إلى جيل جديد من النقاد له ذائقة اخرى تختلف عن النقاد الذين يقفون على اطلال البلاغة العربية، ومازالوا مسكونين بأسئلة الشعراء العرب القدامى.
حقيقة لن يستطيع قراءة قصيدة النثر سوى نقاد لهم ذائقة جديدة ومختلفة تماما. والمسألة ليست بالريادة النقدية، او بعمر الناقد بل باحساسه وتذوقه، وجدة حواسه التي لم تجعدها العادة، او يحتويها صمم الانشغال بالمناصب والدعاية المهرجانية، او تكلسها الكتابات الانطباعية الزائفة. قصيدة النثر حالة جمالية اخرى في الشعر العربي لها شعراؤها المؤسسون، وشعراؤها النابهون، وهي مجال بكر وخصب للقراءات النقدية المختلفة المتميزة.
|
|
|
|
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى
chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى
admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved
|