تبئير المكان في الرواية السعودية الحديثة د. أحمد جاسم الحسين
|
لم يتم التنبه الى أهمية المكان في عالم الرواية الا بعد مرور فترة زمنية مكنت الروائيين والنقاد من محاولة تشكيل نظرية روائية، اذ تم التعامل معه في البداية بوصفه اطاراً حاوياً لمجموعة من الأحداث، لكن بعد تراكم كتابي وجد المتعاملون معه ان ثمة عناصر غير محدودة يمكن توظيفها في المكان، فالمكان فضاء وشخصية ومحور وركن أساسي في بنى الرواية الحديثة.
وفي الرواية السعودية لم يختلف التعامل معه عن التعامل العالمي والعربي اذ اننا بتنا نلحظ في السنوات الأخيرة تبئيرا متلاحقا للمكان عند عدد كبير من الروائيين، وهذا استنفر طاقات المكان، واكتشف الروائيون فيه بنية بكراً تقبل الكثير من التوظيف والتفاعل، واصطدموا بعدد من الأفكار من مثل:
ماهو المدى المطلوب للتوافق بين المكان الروائي والمكان الواقعي وكيف يمكن توظيف تفاصيل المكان وذاكرته لتوصيل المقولات المرادة؟
وغير ذلك من الأسئلة التي أثمرت عن عدد من الروايات التي جعلت المكان بؤرة مركزية في الرواية، وقد أسهم تعدد الفضاءات الروائية المتوافرة في بيئة المملكة في تعدد تناوله فهذا احمد أبو دهمان يصرف «حزامه» للحديث عن فضاء القرية / الذاكرة وكيف تتقبل تلك الذاكرة ما يطرأ عليها من مستجدات، اضافة لما يحدث لابن هذه القرية حين يصل الى عالم «المدينة» الذي أسهم هو وغيره في تقديم صورة لا تخلو من كآبة على المدينة، وهذا ناجم من حيز الحرية الذي تتيحه المدينة لكثير من الشخوص كي يظهروا على حقيقتهم وتتيح لهم ممارسة وجودهم المخبوء والمسكوت عنه المركون في خبايا النفس.
وبكثير من الصراحة يشير عواض شاهر العصيمي في «أو على مرمى صحراء في الخلف» الى تلك التحولات المرافقة للانتقال من حياة الصحراء الى حياة المدينة التي كانت ملاذاً لمن لا ملاذ له، ويغوص الروائي عميقاً في فضاء الصحراء وهو موقن أن هذه الذاكرة الشاسعة تحتضر، مرة بفعل الزمان وأخرى بفعل تغير النفوس، وينهض عنده الهم الشخصي للراوي متوشجاً مع أحداث الرواية التي يحتضنها المكان متفاعلاً معها ومكوناتها، ويكاد الهم المكاني عند الروائي وكثرة التفكير بالصناعة «الروائية» ان يحيلا العمل الى نص تجريدي يجهد المتلقي نفسه في متابعة أحداثه بعد ان غاص الروائي كثيرا في تجريد الحياتي «الحار» لتحويله الى فكرة أراد تثبيتها في لحظة زمانية عبر مكان ضاج بالدفء والحرارة والفعل الطبيعي عبر لغة مطواعة تنوعت مستوياتها من فصل الى آخر.
وتتخذ ليلى الجهني من مدينة جدة عنصرا فاعلا ومونولوجا داخليا يغدو مشجبا ومسندا في آن واحد، يتم من خلاله «أسطرة المدينة» وتحويلها الى شخصية محورية في أحداث الرواية فهي الام الحنون والاب القاسي والحبيب الراحل والملتقى لكل الآمال والآلام، تتحول جدة على يدي ليلى الجهني في «الفردوس اليباب» الى وطن يعج بأشياء وأشياء وتسعى الروائية الى استدراج المدينة للبوح ببعض مكنونات روحها المخبوء منذ قرون لا حدود لها، غير ان ذاكرة المدينة مصفدة الأبواب وتحتاج لمفاتيح خاصة لا يمكن العثور عليها إلا بعد الاكتواء بنيرانها.
عبدالله التعزي في «الحفائر تتنفس» يصرف صفحات روايته للبحث والحفر في الحفائر بوصفها مكاناً طبيعياً موجوداً في مكة، وللحفر في تاريخ الشخوص من خلال السعي للقبض على الحقيقة «الزئبقية».
ويفلح الروائي في جر متلقيه الى حفائره لتغدو مجهراً يحرص كل قارىء على استعماله لقراءة المسكوت عنه في تاريخه الشخصي، وقد قدم الكاتب ما قدمه عبر حس فني عال احال المكان الى فعالية ثرة اغنت عالم الرواية وجعلت المتلقي يتساءل مع الراوي والروائي: اين الحلم واين الخيال واين الحقيقة فيما نحن فيه؟
اما عبده خال في «الايام لا تخبىء احدا» فإنه يقدم نموذجاً فنياً للحارة الجمازية «الجداوية» بكل ما تحمله هذه الحارة من عناصر متفاعلة تبدو في الظاهر متناقضة متنافرة، ويرصد التفاصيل التي تؤثر بفعالية بسيرورة حياة الشخصيات، اذ تغدو الحارة مركز الكون وتصلح آنئذٍ لتكون مثالاً لما يحدث في عالمنا الصغير هذا وقد تشكلت حارة «عبده خال» من احلام الناس طورا ومن انكساراتهم غالبا، لأن معظم ساكنيها ممن ركز عليهم الروائي هم من المنكسرين الذين يشكلون غالبية سكان الارض.
ويدخلنا عبده خال معه الى تفاصيل الحارة لنتعاطف مع «ابو حية وابو العمائم» واقفين في وجه «المآميرو العمد» وغيرهم ممن يقتنصون اللحظات الجميلة في حيوات الناس البسطاء.
ولا ننسى في هذه الاشارة السريعة فضاء «فيضة الرعد» عند عبد الحفيظ الشمري وغيرها من القرى المجاورة، وفضاء«حالة عمار في رواية الحدود» عند نايف الجهني الذي قارب الصحراء والقرية، والمكان اللا منتمي من خلال «الحدود».
تجد مما سبق ان فضاء المكان الروائي قد تمظهر عند الكتاب الجدد في الرواية السعودية من خلال اربعة امكنة هي القرية والصحراء والحارة ومفهوم المدينة وكل هذا يحتاج لوقفة أطول.
aaalhaseen@hotmail.com
|
|
|
|
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى
chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى
admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved
|