أعراف
المعلقة العُمرية
محمد جبر الحربي
|
فلننهل إذاً من هذا البيان الساحر:
ألا ليت لي قلبين إن مال صاحبٌ
جفوت لياليه بأقصاهما ترحا
وأفرغته الأدنى من الشوق والضنى
وباكيت ريش الطير شكواي والقرحا
يعرش في شط شفيف محارُه
يواقيت راءٍ راعشٍ طرفه جمحا
فأغمض حيناً ثمّ ها عن غلالةٍ
أفاء مناجاة فلاثمته متحا
ثم ليكن العلل من هذا الجمال الذي لايشرح، بل يستعاد مرة تلو اخرى، لتتكشف كنوزه اللغوية، ولتتصاعد أنغامه لتملأ أرجاء الروح والمكان.
ولتتكامل مهارة الغوص والبناء والنحت مع حرقة الوجد والبوح، لتخرج لنا لا (شطاً شفيفاً محاره راءٍ راعش طرفه جمحا) فحسب، بل سيمفونية حية، وبناء أخاذاً من أحجار لغة كريمة، وخيالٍ عبقري:
معللة هذي الدياجي وإن لي
لفرعين من نورٍ ورفرافة لمحا
ومتنين مختالين حتى كان هنا
مفاض برودٍ.. وشيها اللون لا يُمحى
(عدولية أو من سفين ابن يامن)
تهامية أوليت رجراحها يضحى
فأنكث غزلاً.. لا الصبابات حقلا
بكين.. ولا الأنداء ذاهلة فضحا
وهذا شعر لا يفصله النثر، ولا يصله النقد المتسرع.
ونواصل معه الرقي، ولكم وددنا أن نورد القصيدة كاملة، ولكن:
أغرّك أن أسبلت ذا الجفن آيبا
على مشتهى من لازورديه فصحا
كأن جناحاً فض في الريح صوتها
كأن شفاها.. كان أحمرها شحا
مغيبة.. لون المغيب.. الظما بها
وبي.. بالضحى.. بالجفن رققته شطحا
وبالبان.. بالأزرار بالجيب راعشا
مخبّأ ياقوتٍ فأعييتنا شرحا
سفرت.. الثريا إن سهيل بدا لنا
على وسنٍ.. ناي اليماني لو يصحي
ليغني الذي (يكتم الهمّ.. والهمُّ صاحب):
لأشرعتُ في الليل المقامات من ظمأ
حجاز.. ونأياتٍ تهامية جرحى
ولعل للغويين في هذا البيت المليح.. لغة!!
فيالها من لغة.. ويا له من راءٍ راعش طرفه جمحا، يعاود نثر يواقيته:
ويا شعر هل في الإنس (خاتم) شاعرٍ
يحاكيه (صبيان) ويرعونه سرحا
إذن شبْ فهذا مفرق الليل قد دجى
وقل كيف يجفو الطل ميقاته الصبحا
ويا آيباً مضناه في الشفة التي
يواقيت راءٍ راعش سيدي الصفحا..
إنها بالفعل قصيدة عالية تتفتح من جديد كلما قرأتها، وتبرق أحجارها الكريمة، وتتلألأ نجومها النائية في صدر السماء.. وعلى صفحة النهر الذي لا يكف عن الجريان.
وإنها لتدعونا الى التريث.. واللبث.. والتأمل والنهل والعلل.. لا الركض والإغفال والنفي والمصادرة.
|
|
|
|
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى
chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى
admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved
| 
