مساقات نَقْدُ القِيَم (قِيَمٌ تُقفل العقل وتعزل الإنسان) «9» د. عبد الله الفَيْفي
|
.. ولا يعني نموّ القِيَم في المجتمعات انقلابها بالضرورة. أي أن قيمة الصدق مثلاً تصبح ذات يوم غير صالحة فتستبدل بها قيمة الكذب. كما لايعني تحوّل القِيَم تبدّل مشاعر الشخص فقط، كأن يكون كريماً تارة ثم يتغيّر مزاجه إلى البخل، أو يكون شجاعاً حيناً ثم يظهر الجُبْن حيناً آخر(1). ولكن نموّ القِيم وتحوّلها يعني أن درجة الثبات في القيمة ذاتها نسبية، وليس لها ثبات بإطلاق. حتى إن القيمة الواحدة من الزمان الواحد والمكان الواحد لتتراوح قبولاً ورفضاً حسب المواقف والأغراض. فهل (الصدق) الذي يمكن أن يؤدي بحياة إنسان لو سمعه سيستحيل إلى (جريمة)، بينما (الكذب) الذي كان مرذولاً هو الذي سيسمى في تلك الحالة (قيمة وفضيلة). مثلما أن الكرم قد يسمى سَفَهاً في حالات، كما أن الشجاعة قد تغدو طيشاً وجهالة وإلقاء بالنفس إلى تهلكة في حالات. وهكذا تظلّ القيمة نسبية، غير ثابتة لا في ذاتها ولا في الأشخاص المتحلّين بها؛ لأن وظيفة القيمة الأخلاقية عموماً هي جلب المنافع الاجتماعية ودرأ المفاسد والمضارّ، وليس العكس.
فإذن لا معنى للقول بثبات القِيَم بمرور الزمن، إلا أن يكون التعصّب لتقاليد الماضي وتقديس قيمه وأسلافه. وإن الأصل اللغوي المشتق منه مصطلح القيمة ليؤكد على ذلك، كما تَقَدَّم؛ فالقيمة الإنسانية كالقيمة التجارية، تتفاوت بحسب الزمان والمكان، والعرض والطلب. على أنه ينبغي التفريق هنا بين طبيعة الحراك في القيمة وفق المقتضيات في سوق الحق والخير والجمال وتغيير القِيَم أو التنازل عنها ظرفيًّا، لمجرد فقدان الأسباب التي ينبغي أن تَحُوْل دون تحوّل القيمة إلى عكس ما وُجدت له، ومن ذلك اتخاذها مطيّة إلى جاهٍ أو صيتٍ لدى الناس.
أمّا القول بأن (الشعور بالقِيَم شعور متحرّك، وأمّا القِيَم في حدّ ذاتها فثابتة لا تتغيّر؛ لأن ماهيتها أبديّة لا صلة لها بالزمان أو التاريخ)(2)، فضربٌ في المجرّد. وإنما تكمن الأهمية في ذلك الشعور المتحرّك بالقِيَم الذي يصنعه التفاعل البشريّ وضرورات الحياة، وهو الذي ينتج القِيَم أساساً. ولذلك فإن روّاد الأمم وهُداتها (لا يكتشفون إلا القِيَم التي يتطلّع إليها الناس (في أزمنتهم)، لكن الفضل يرجع إليهم لأنهم هم الذين يطالعونها في قلوب الناس، ويخرجونها إلى منطقة الوعي ويرفعونها إلى الأعالي(3). ومن هنا فإن للزمن إلى جانب عوامل المرجعية والبناء الاجتماعي والثقافي دوره في تنوّع القِيَم أو تحديثها، وربما إلغائها، (فما هو (قِيمَة) من زمن من الأزمان، قد لايكون (قِيْمة) في زمن آخر، حتى مع اتفاق الثقافة العامة وشمولها، وماهو منكر في زمن قد يكون معروفاً في زمن بعده(4). كيف لا، والقيمة صنيعة الطبيعة الإنسانية، وتعبّر عن التطوّر النوعيّ الخُلُقي في التاريخ والمجتمع، كما يرى (شيلر)(5).
إن تكرار كلمة (ثوابت) كما في توطئة (موسوعة القِيَم ومكارم الأخلاق العربية والإسلامية، (الرياض: دار رواح، 1421هـ 2000م) مؤشرٌ في ذاته إلى تلك النظرة الجموديّة إلى الحياة الاجتماعيّة والفكريّة. وسيقف القارئ في تلك التوطئة على مفردات خطابية، تبدو مفرغة من المدلول، كالحديث عن (اهتزاز الثوابت)، وأننا نحن العرب قد (كدنا نذوب في حُمَيَّا طوفان التقدم الفكريّ والماديّ الغربيّ).
(19:1). وفي مفردات هذا الخطاب الشائع تتجلّى بعض القِيَم العربية السالبة، التي ما فتئت وسائل التربية والاتصال تعذّي بها النفوس والعقول. ومنها غرس الشعور بالذّلّة والمسكنة، وأن الإنسان العربي قد أضحى ريشة في مهبّ الغرب وأعاصيره؛ فلا حول له ولا قوة إلا بالاعتصام بمفاهيم هلامية، تسمى (ثوابت). فلقد بتنا كما تقول (موسوعة القِيَم) (منجذبين إلى كل برقٍ لامع، إذ غلبتنا الحضارة الغربية بما أفرزتْ).
إنها قِيَمٌ تُقفل العقل وتعزل الإنسان، خائفاً يترقّب، في قوقعة قصيّة عن العالم. وتلك أُولى القِيَم التي تجعل الإنسان فعلاً متأثّراً لا مؤثّراً؛ من حيث تنزع عنه الثقة الفطرية في التكافؤ الإنساني، وتزعزع القناعة بأن تفوّق الآخر، مهما بلغ، لا سبيل إلى اللحاق به سوى بالثقة والانفتاح الذهنيّ والنفسيّ. ولذا صارتْ فكرة (الثوابت) مثبّطة عن كل تحرّك إلى الأمام. فهي تفترض بدءاً أن الآخر لا (ثوابت) له، أو أن (ثوابته) نقيضة لثوابتنا، حتماً، ثوابتنا التي تمثّل، من وجهة نظرنا، الخيار الوحيد والنهائي لقِيَم الخير والفضيلة في الوجود. ومن ثَمّ سيُثّبّتُ كل صاحب هوى أو عِرْق أو انتماء عاداته وتقاليده وأعرافه على أنها هي ثوابت الأُمَّة. وهذا التصوّر يخطئ في حقّ ذاته والآخر معاّ؛ إذ يغفل قبل كل شيء عن أن ليس هناك في الإسلام من ثوابت مطلقة، إلا ما يتعلّق بأمور العقيدة، أمّا فيما عدا ذلك فما يُميّز الإسلام أنه دين فطرة ويُسْر وسهولة وطواعية على التكيّف والتطوّر، والتأثير والتأثّر الإيجابيين. لأجل ذلك كان ديناً للعالمين، صالحاً لكل زمان ومكان !
ومن هذا يتبدّى أن مصطلح (الثوابت) لا يكون أحياناً بأكثر من قناع لتسويقٍ عِرْقيّ. أما ما يجنيه هذا المصطلح بحقّ الآخر، فهو أن يصوّر ما يظهر على السطح في كل حضارة، ممّا تنبو عنه القِيَم الذهنية والروحية، على أنه دليل انتفاء القِيَم في تلك الحضارات، أو دليل عدم إمكان الالتقاء بها على صعيد القِيَم. مع أن الحضارة الإسلامية نفسها لم تك قطّ بريئة من مثل ذلك؛ فقد شهدتْ عبر حقبها المختلفة ضروباً من النتوءات الانحرافيّة، نظيرة لما في الحضارة الغربية اليوم، أو ربما أشدّ قُبحاً. أفيصحّ الحكم بها تعميماً على المعدن القيميّ للعرب والمسلمين، كما هو النمط التصوّري الغربيّ عن العرب والمسلمين؟!
ولمّا كان الخطاب الدفاعي عن شبح (الثوابت) من الاهتزاز بحيث لا يستند إلى منطق سليم، فستجده يعود ليصف ما غلبنا من الغرب بصفة (الحضارة)، ويحذّر من مغبة اهتزاز (الثوابت)الاجتماعية والفكرية نتيجة ذوبان (الثوابت) في (حُمَيّا طوفان التقدّم الفكريّ والماديّ الغربي (6)! فما دام يسمّي تلك (حضارة)، ويدعو ذاك ب(التقدّم الفكريّ والماديّ)، أ فنحن إذن في مواجهة عدائيّة مع (الحضارة) و(التقدّم)! أم نحن أمام خيارين، لا ثالث لهما، إمّا (الحضارة) أو عدمها أي إمّا (الحضارة) أو (الثوابت)؟! وبلفظ آخر إمّا (التقدم الفكري والماديّ)، أو ما يدعى (الثوابت) الاجتماعية والفكرية؟! وإزاء هذه المعادلة نجد الإلحاح على ضرورة (الثبات) وعدم التقدّم، ومحصلة ذلك ببساطة: تفضيل (التخلّف) باسم (الثوابت) على (التحضّر) بدعوى (التغريب). قد نُجادل بأن المعنى إنما يتجه إلى ما في الحضارة الغربية من سوءات، غير أن جعل الخطاب في عداء مع ما يسميه الخطاب نفسه لا غيره ب(الحضارة) وب(التقدّم الفكريّ والماديّ) يكشف مأزق خطابٍ متنازع بين عدم القدرة على ذكران الحضارة والتقدّم من جهة وبين إظهار المعاداة المبطّنة لهاتين القيمتين من جهة أخرى. وهذا ما يثوي وراء العبارات وتناقضاتها، وقبل ذلك في لا وعي الكاتب وهو يَصْدُر عن خطاب نمطي مردّد، لا يسمح له بالتفكّر فيما يقول.
(والحديث مستمرّ).
الهامش:
1) انظر: موسوعة القِيَم 1:53
2) الربيع، ميمون، (د.ت) نظرية القِيَم في الفكر المعاصر بين النسبيّة والمطلقة، (الجزائر: الشركة الوطنية للنشر والتوزيع)، 262
3) م.ن.
4) موسوعة القِيَم، 1:67
5) انظر: (1966) Der Formalismus in der Ethik und die materiale,(Wertetik,koeln,Germany)22
5)موسوعة القِيَم 1:19
|
|
|
|
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى
chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى
admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved
|