هل للعرب أيُّ فضلٍ على البشريَّة؟! د.أحمد بن محمد الدبيان *
|
أعلن في القاهرة عن أن البروفسيور فؤاد سزكين مدير معهد تاريخ العلوم العربية والإسلامية سوف يلقي محاضرة في جامعة الدول العربية حول مكانة العرب والمسلمين في التراث البشري الإنساني.. ولكن هل للعرب فضل على البشرية؟!.
ربما يبدو هذا السؤال غريباً لدى بعض القراء، في حين أنه سيبدو سؤالاً مملاً ومعاداً من القول مكروراً عند بعض آخر!! ربّما.. ولكن لابد من وقفة أخرى للتأمل في أبعاد جواب هذا السؤال المهم في هذا الوقت خاصة، وللجيل الجديد من أبنائنا وبناتنا ومثقفينا خاصة، فبعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر سنة 2001م، وما تبعه من تداعيات فكرية وطرح فكري تنظيري في مجال السياسة والفكر ومجال الصراع الحضاري.. ثم التوظيف البين لهذه الموجة العارمة من قبل بعض الدوائر السياسية في الغرب عبر وسائل الإعلام بعد ذلك كله صارت هناك تساؤل لدى بعض القراء وكثير من عامة الناس من الغربيين بأن العرب والمسلمين عموماً صاروا مشكلة في العالم كله!! وهم كما يحلو لبعض المتطرفين فكرياً أن يعتقد ربّما لا يتلاءمون مع النسيج البشري العام على سطح هذا الكوكب.. وهذا تساؤل يخشى أن يصبح في يوم من الأيام قناعة وتصديقاًَ!!.
والذي يعيد هذا السؤال ويستدعي إطالة الوقوف بل الجلوس والتأمل هو أن هذه القناعات وهذا السؤال طرح في الإعلام الغربي بصورة جادة أخذت عبر التكرار الإعلامي تثير التساؤل نفسه لدى الشباب العربي الناشيء.. ويعزز هذا التساؤل ويرسخه جهل لدى الناشئة بتاريخ الأمة ودورها الحضاري وخصائصها الفكرية، على حد قول الشاعر القديم: (فصادف قلباً خالياً فتمكنا).
لا أقصد هنا الحديث عن الجانب الديني ورسالة الإسلام السماوية وما تحمله من أفكار ومبادئ خير للبشرية، فهذه وإن كانت موضع قناعة منا إلا أنها ليست مجال القول ومقصد الحديث، بل سوف أنحو بالموضوع منحى آخر هاماً جداً.
إنك لو صنفت الغربيين اعتماداً على رأيهم في جواب هذا السؤال المتقدم لوجدتهم أحد رجلين: الأول رجل يجهل ذلك تماماً، ولا يعرف عن العرب إلا ما يراه من السائحين، وما أدراك ما السائحون، أو يسمعه من وسائل الإعلام وهو في الغالب تشهير بصورة العربي وانتقاص له ونقد مباشر وغير مباشر، أما الثاني فرجل يعلم ذلك جيداً وهو من القلة القليلة الذين درسوا تاريخ الحضارات بصورة جيدة أو استمع إلى بعض المستشرقين ممن لهم دراية بتاريخ الحضارة الإسلامية والتأليف فيها.
ومشكلة التعريف بالدور البشري للعرب مشكلة كبيرة، لا نزال نعاني من آثارها ونواتجها وانعكاساتها الثقافية في العالم، وهي أيضاً تقع على عاتق العرب أنفسهم قبل غيرهم ودون سواهم.. وفي تصوري أننا في ثقافتنا العربية المعاصرة لم نفعل الشيء الكثير لخدمة هذا الأمر وتحقيق هذا المطلب الهام.
لابد لتحقيق ذلك قبل كل شيء من استكمال عدتين اثنتين: الأولى ثقة بالنفس وقناعة بالذات، والثانية معرفة علمية كبيرة واطلاع على التاريخ الحضاري والناتج الفكري الحقيقي للأمة العربية والإسلامية.. ولا يمكن أن ينهض أحد بهذه المهمة وهو لا يضع يده على هذه العُدد والأدوات.. إن التيار الجارف مما تطرحه وسائل الإعلام الغربية من تحليل واستنتاج عن الشعوب العربية والسياسة العربية ومشكلات المجتمع العربي والدين الإسلامي وقضاياه التصديقية الدينية وكل معطيات الحضارة الإسلامية بمعناها العريض.. يحمل في أكثره كثيراً من وخزات دبابيس النقد وضربات المطارق على الوجدان العربي وعلى الثقة بالنفس.. والغربيون بل كثير منهم حتى لا نقع في دائرة التعميم، يهملون الجوانب المضيئة في تاريخ العرب والمسلمين في الحاضر والماضي، وإن وجدوا شيئاً ذا بال واستحسنوه أحياناً نسبوه إلى غيرهم ممن عاش في كنفهم أو خالطهم من الأمم.. وكأنه حكم على عقل العربي والمسلم بالجدب وعلى فكره بالتصحّر.
وإن من الحق أن نعترف هنا أن ضعف البنية النفسية والتوجيه السيكولوجي في مناهجنا الدراسية فيما يتعلق بالوعي بالذات والشعور بالوطن والمسؤولية الوطنية والانتماء العربي والانتماء الإسلامي كلها أضعفت العامل الأول وعززت الشك الذي تطرحه الآلة الغربية الإعلامية وهزت ثقتنا بأنفسنا.. ومن نتيجة ذلك أن تجد حتى من أبناء العرب وخاصة في هذا الوقت من يشكك في الحضور الحضاري لهذه الأمة ودورها الأنساني.
أما ضعف الجانب العلمي فحديثه حديث أعجب وشأنه شأن أغرب!!! وهي مسؤولية كبيرة كذلك ولكنها في الدرجة الأولى من نصيب وزارة التربية والتعليم، فنحن على سبيل المثال ندرس أبناءنا الكثير من المواد الدراسية، ولكننا قلماً نقدم لهم فيما ندرس لهم التاريخ الحضاري للعرب والمسلمين بمعناه الحقيقي الإنساني وأبعاده الرائعة، بل ندرس التاريخ السياسي للعصور الإسلامية فقط!!
نحن لا ندرس هذه الحضارة الرائعة وآدابها العميقة، لا نحلل بعمق كيف استطاعت أن تصهر عدداً كبيراً جداً من الشعوب المختلفة الأجناس من العرب والكرد والهنود والبربر والأفارقة والترك وغيرهم.. لتصنع منهم قالباً قدم الحضارة الإسلامية والفن الإسلامي والأدب الإنساني الجميل والعمارة الإسلامية في كل هذه الشعوب.. لا ندرس هذه الحضارة التي استطاعت أن تنتج لنا علم الأصول وعلم الفقه وعلم النحو وعلم الحديث وما في أصول هذه العلوم من ضوابط وأقيسة وقضايا.. لا ندرس هذه الحضارة التي ورثت كثيراً جداً من علوم الأقدمين من اليونان والرومان في الصحة والطب والكيمياء والفيزياء والرياضيات.. لا ندرس هذه الحضارة التي قدمت تراثاً عظيماً في علم الفلك وعلم النباتات والعقاقير، لا ندرس الحضارة التي خطت خطوات بهذه العلوم ثم قدمت ذلك مباشرة إلى أوروبا عبر اللغة اللاتينية التي كانت لغة العلم في أوروبا حتى وقت قريب ولا تزال كذلك على مستوى المصطلحات.. لا ندرس هذه الحضارة التي خلفت أكثر تراث مخطوط في متاحف العالم وتفوقت به اللغة العربية على جميع اللغات العالمية في التراث المخطوط.. لا ندرس الفن الذي خلفته هذه الحضارة في البلاد العربية في الهندسة المعمارية في مساجدها وأربطتها وأسبالها وتأثرها وتأثيرها.. وفي الحواضر الإسلامية حتى اليوم لا ندرس الفنون الإسلامية كفن الخط العربي الرائع الذي تواتر على تطويره العرب ثم الأتراك والفرس والهنود والأندلسيون.. ولا ندرس ولو إلمامة سريعة شيئاً عن فن التذهيب والزجاج والحفر والتطريز والسجاد وأنواعه الكثيرة التي تأتي في جملتها من البلاد الإسلامية.. وكل هذا الفن مما لا تزال مزادات التحف والآثار في أوروبا في لندن ونيويورك وغيرها تعرفه ولا تنكره وتقدره حق قدره فتبيع القطعة منه بألوف مؤلفة.. بل حتى الأدب العربي شعره ونثره ندرس أبناءنا حفظه ولا نعلمهم تذوقه والشعور فيه وأن يعيش المرء داخل جو النص الأدبي!! وهكذا تطول القائمة وتطول وتطول.. وإن المرء لا يخفي إعجابه بالبروفيسور فؤاد سزكين وعمله الدؤوب الصبور في هذا الجانب وهو عمل ينبغي أن نهتم به كثيراً.. والدور الذي قامت به جامعة الدول العربية في معرض الكتاب دور رائع يذكر ويشكر لأمينها العام عمرو موسى، وأرجو أن يكون اهتمام من الجامعة بهذا الوعي العربي داخل وزارات التربية والتعليم في العالم العربي نفسه.
غاية الأمر وقصارى القول إن مشكلتنا تبدأ منا ومن أنفسنا قبل أن نلوم غيرنا، فمن لا يعرف نفسه ويدرك ذاته جيداً لا ينبغي أن يتوقع أن يعرفه الآخرون أو يفهموه على نحو صحيح!! وقد يتوهم متوهمٌ أو يقول قائل إني أطلب أن نعيش على ذكرى التاريخ الماضي وتكرار الحديث عنه!! ولكن هذا ليس بصحيح، لأني لا أقصد فقط قراءة كتاب أو حضور درس، بل أريد من هذا التاريخ أن يكون ماثلاً في الشخصية والبناء الفكري لنا في هذا الوقت خاصة.. والمقصود من ذلك كله أن يعيد هذا الفهم والعلم به إلى عقولنا وشخصيتنا الوعي والثقة بدورنا في الحضارة البشرية، وأننا لسنا شعوباً ساذجة عاشت تقتات على موائد الحضارات الأخرى منذ وجدت على ظهر هذه الأرض.
إن الوعي بالتاريخ أمر مهم جداً وأكثر الشعوب بقاء واستمراراً هي الشعوب التي تعي تاريخها ودورها.. وحسبي أن أذكر هنا أن اليهود من أكثر خلق الله استحضاراً للتاريخ وتوظيفاً له وجلباً لصور الماضي السحيق للاستفادة منها في الوقت الحاضر في الوعي بالذات وتحقيق الشخصية، بل تحقيق مكاسب معاصرة.. وهذا حديث آخر ذو شؤون ربما تحدثنا عنه ذات مرة.. وفيه درس للناظر وعظة للمعتبر.
إذا كانت المرحلة المعاصرة من تاريخ العالم مرحلة تحولات كبيرة على المستوى الفكري والحضاري والسياسي في العالم، فالسنوات المقبلة ستكون أشد وطأة، وما نراه من تيار للعولمة الثقافية وصبغ العالم بصبغة واحدة ومذاق واحد ولون واحد سوف يزداد علواً وظهوراً كطوفان نوح ولا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم، ولن يستطيع الحفاظ على مكتسبات الأمم الحضارية والثقافية إلا وعيها بذاتها وتراثها ولغتها وفكرها النابع من جذورها الأولى هذا كله مع الأخذ بأسباب المدنية المعاصرة والتقدم التقني الذي يمكن أن يكون قاسماً مشتركاً بين البشر ولا يعارض أصلاً الفكر الإنساني لأي شعب في العالم، وبرامج الحوار الثقافي والتفاهم بين الشعوب والثقافات، وهو ما صار يدعى إليه في كل مكان وهو مفيد نافع، لا يتم بالتنازل والتراجع، بل يتحقق على الوجه الصحيح بهذا الوعي والإدراك للذات الذي ذكرناه آنفاً.
لك أن تتصور أن المكان الذي نبحث عنه اليوم في العالم لنقدم أنفسنا من خلاله لنقف عليه، ونضع أرجلنا اليوم على مربعه، فنحظى بنعمة كبيرة هي أن يفهمنا الغرب فهماً صحيحاً ويدرك مبادءنا إدراكاً جيداً ويفهم ثقافتنا فهماً منصفاً كما نحب، لنحظى باعتراف واحترام أمام الأمم الأخرى.. هذا المكان لا يمكن أن يأتي مبتوراً من تاريخنا ومجتمعاتنا ومنتزعاً بلا زمن أو نامياً بلا جذور على غير مثال سبق!! وكل محاولة الآن قد يقوم بها بعضهم لاختزال الفكر العربي والخصوصية العربية وتذويبها في الرؤية الغربية والمثل الغربية عموماً للعالم، كما يحلو لبعض المثقفين أن يتصور، لا تعدو أن تكون حركة خارج الذات وانسلاخاً من الزمان والمكان، وهي في الوقت نفسه هزيمة نفسية كبرى وردة جاحدة، سوف تدفع ثمنها الأجيال الآتية.. وهذا أمر يحتاج إلى مزيد بيان لعلي أعود عليه مرة أخرى في حديث آخر.
ولكن دعني أختم لك هذه العجالة عزيزي القارىء بكلمة جميلة جداً لأستاذنا المستشرق الألماني الكبير جيرهارد إندرس، فقد كنا قبل بضع سنوات في حلقة من حلقات درسه نقرأ وندرس نصوصاً من الحضارة العربية ونقل التراث العلمي اليوناني إلى اللغة العربية وتأليف العرب فيه بعد ذلك وإكمالهم له، فأدركنا التعب من مقارنة المخطوطات والنصوص العلمية، فانبرى قائلاً وهو ينظر إليّ ويشير بيده: عليكم أن تهتموا جيداً بهذا التاريخ العلمي، لأنه من الدلائل البينة على عظمة أجدادكم ودورهم في الحضارة البشرية.
لا أزال استعيد تلك الصورة حية، فقد خرجت إثر ذلك من عنده يومئذ في ظهيرة يوم برد قارس في شتاء ألمانيا، وقد فجرت كلماته تلك في نفسي ينبوعاً دافئاً من الرضا والغبطة جعل يتدفق بهدوء بين جوانحي، ويسري في أطرافي، وجعلني لا أحسّ ببرد شتاء ذلك اليوم في ساحات الجامعة الباردة على ضفاف نهر الرور!! وكل عام وأنتم بخير.
* مدير المركز الإعلامي/لندن
|
|
|
|
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى
chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى
admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved
|