أنداء الفجر الجديد!! (مهداة إلى أستاذي الدكتور منصور الحازمي) عبدالمؤمن بن عبدالله القين
|
كم تاهت تلك الخطى وهي على أول الطريق.. كانت تترسم مواضعها رويداً رويداً.. وأحياناً يشتد بها العدو.. وأخرى يثب بها القفز وتدرك أن شيئاً ما فاتها، فتتساءل، هو تعود القهقري لتسير من جديد حتى ولو على حواف الطريق؟.. يدركها اليأس تارة فتتوقف ليعيد صاحبها ترتيب دفتر أيامه.. بعد أن تبعثرت صفحاته هنا وهناك، فصفحة مكتوب عليها آية من القرآن الكريم وثانية مكتوب عليها حديث نبوي شريف، وثالثة بيت من أبيات الشعر القديم والحديث، ورابعة خاطرة أو خواطر نثرية لأدباء عرب وغربيين، وخامسة مسكوب عليها دم جراح بات يلعقها مرزأ القلب.. الحروف فيها غامض معناها لا يكاد يبين، يكسوه ضباب ممتد على طول الطريق!! كانت هذه حصيلة أربع سنوات على الطريق كانت هذه حصيلة أربع سنوات على الطريق!!
وأتساءل: متى تشرق الشمس من جديد؟ متى يبزغ الفجر من خلف الغيوم بابتسامة الشمس الحلوة وكأن أشعتها المتفرقة ذؤابات شعر أشقر لحسناء يفتر ثغرها عن نأمة حب تنادي من يهواها في صمت قائلة: أحبك.. أحبك.. وما تدري أن رضابات الحب قد جفت في فمه وتشققت شفتاه.. فهو لا يقوى على فتحهما لتطبقا على شفتيها في قبلة طويلة تذيب العشق كله في ليلة امتلأت سماؤها بالنجوم وانتصفها القمر ورأى كل صاحبه في ضوئه وناجاه بأعذب كلام وأرق تعبير.. حتى أن كلاً منهما يخال أنه عجز عن مخاطبة صاحبه بمثل عباراته الجميلة الحسنة.. فلسانه يعجز عن التعبير!!
هما في روض سامق الشجر ملتفه إذا ما أصبح عليهما النهار، والعصافير تشقشق فوق الأغصان تلتقط الحب بمنقارها، وكل منهما يرتشف (العسيلة) من فيه صاحبه ولا يرتوي!!
إنه العشق الذائب في الوجد لا يمل الواحد منهما صاحبه فيه ولا يقف معه عند حد، بل يتصوره أحياناً تمثالاً كتمثال بجماليون ولكن بدماء تنبض في القلب وتجري في العروق، وبحس مرهف يرقى إلى درجة الإحساس بجمال الكون، فتذوب معه كل العنعنات وتشفق حتى على الحساد والناقمين، فهل هذا الإحساس هو ترجمة لمعنى (أنسنة الوجود)؟ نعم إنه كذلك حينما يكون العطاء بلا حدود.. لا ينتظر الأخذ ويصبر هذا العطاء على الأذى والضيم، فلا بد من فجر جديد.. يمزق ضياؤه حلكة الليل البهيم وينبذ (استيافاته) فيدعها مترنحة حائرة لا تدري ماذا تريد؟ ماذا كان في الأفق البعيد من أمل مخبأ لهذا الباحث عن الحقيقة؟ بل ما الذي طوى له الزمن فاختصر السنين ليعود كما بدأ؟
يطل هذا الفجر على عالمي بوجه مشرق جميل وابتسامة حنونة تملأ الأفق حبوراً وبهجة.. ادخرهما الله لي ليكونا زاد عز ورفعة على كل تفاهات الحياة وقشورها، كأنني في حلم لم يتحقق بعد، لكن الصبح وشيك قريب!!
إيه يا أستاذي الأديب الأريب!! كم أثارت كلمة (الابن) كوامن الحب لك في قلبي حينما كتبتها في توصيتك.. وأنا لازلت أتذكر رسالتك الجوابية على رسالة بعثتها لك بعد تخرجي في الجامعة وأنت تقول فيها:( إن رابطة العلم هي كرابطة النسب).. فها أنت ذا تنعتني بالابن وأنا أعتز بذلك، فالوفاء في العلم أيضاً قيمة تسمو على قيم هذا الزمان المتصدع بكل ما يزكم الأنوف ويسيء إلى الإحساس والشعور، فقد تسربلت الأكوان عبر وسائل الإعلام بالكلام وفشا القلم، وفشوه من علامات الساعة كما أخبر النبي الكريم صلى الله عليه وسلم .
نعم لقد غادرت ساحة الحرف طويلاً، ولكنني عدت الآن ولو بعد حين، بعد أن بزغ فجر آمالي من جديد وتجدد العطاء في حروفي.. يستمد قوته من أسلوب القرآن الكريم ولله الحمد بعد أن عكفت على تدبر ألفاظه ما يقرب حتى الآن من خمسة عشر عاماً، ولهذا وجدتني مدافعاً عن ألفاظه التي وصفها الدكتور أحمد مختار عمر في معجمه (المكنز الكبير) بالتراثية، ووجدتني أيضاً أدافع عن الفصحى وأضم صوتي إلى صوت أستاذي الدكتور أحمد الضبيب والدكتور مرزوق بن تنباك وغيرهما من الغيورين على لغة الضاد والذين اشتركت معهم مؤخراً في ندوة إذاعية حول اللغة والإعلام والعولمة وهما د. محمد خضر عريف والدكتور عبدالرحمن الحبيب.. وإن من أهم التأملات التي وفقني الله إليها في كتابه العزيز، أسلوب القول في القرآن الكريم، وهو أسلوب لغوي إعلامي اجتماعي ذو مقاصد دنيوية لم يتناول دراستها أحد من قبل حسب علمي على عكس المقاصد العليا التي أشبعها الباحثون درساً وتمحيصاً.
أسف يا أستاذي إن أنا انتقلت في هذه الخاطرة من أسلوب الوجدان إلى وصف الواقع الموضوعي.. لكنها خاطرة صغيرة أردت تسطيرها بكل التقدير والإجلال لذكرى غالية إلى نفسي معك ومع كل أساتذتي، أمثال الدكتور محمد الشامخ والدكتور أحمد خالد البدلي والدكتور عزت خطاب والدكتور عبدالرحمن الأنصاري والدكتور عبدالله الوهيبي والدكتور محمد العيد الخطراوي والدكتور عبدالعزيز حكيم وغيرهم.
ورغم أن العولمة فرضت العمل المؤسساتي على الأدب، فلم يقتصر الأمر على ما لاحظ الجاحظ في فكر المعتزلة لنيل المناصب والسلطة، بل أعاق خلود الكلمة وأداء رسالتها كما يذهب أحد الباحثين.. ولو أن إبراهيم المازني حي لسكب سخريته على التنظيرات الأدبية الحديثة، ولأعاد على سبيل المثال كتابة قصته (عود على بدء) ليصف لنا المواقف والمفارقات الطريفة والمرحة التي يصادفها.. فكل من هب ودب أصبح ينظم شعراً بشكل رسائل في الجوال أو عبارات نثرية، والتي لو تأملناها لوجدنا مثلها في تراثنا الأدبي الخالد كتلك النتف من الأقوال وأبيات الشعر في عصور الأدب المختلفة أما رسائل الجوال فهي ليست مكتوبة، إنما مسجلة بعد أن يقرأها فهي إما تهنئة بالعيد مثلاً أو عبارات حب من صديق لصديقته أو من أخ لأخيه.. أما الشعر فأكثره غير موزون، وإنما هو رصف كلمات يقصد بها التباهي والتفاخر ليس أكثر.. وإنه لمن دواعي السخرية أن من ينظم هذه الكلمات هو نفسه الذي لا يطيق سماع قصيدة لابن الرومي مثلاً إذا ما كانت هناك مناسبة لذلك!1
ولربما تحتاج هذه الظاهرة، بعد جمع أكبر كمية من هذه الرسائل المتجولة إذا جاز التعبير إلى دراسة أو مقال، خاصة وأن أدب الرسائل بين الأدباء والأصدقاء قد انتهى، واقتصرت الرسائل على الأعمال والمصالح، فهل من عودة؟ وهل نعرف ديارنا بعد توهم على رأي امرئ القيس؟ وهل سنعيد النظر في حساباتنا ونؤمن بجدوى التوثيق في التواصل عبر الرسائل أم سيظل كل منا ضائعاً في الأجواء عبر أجهزة الهاتف الثابت والجوال؟
وثمة أمر مهم جدير بالتقدير وهو أن علماء الأصوات بدأوا بدراسة ظاهرة الأصوات المختزنة في الأجواء ومحاولة استعادتها مثل أصوات الزعماء على سبيل المثال ولعل الدكتور محمد باكلا يفيدنا بما توصل إليه العلم في هذا المجال.
وأكتفي بهذا القدر حيث توقف القلم ولا أريد استزادته أو قسره على الاستزادة، فلربما حانت أمامه فرصة أخرى للاستفاضة، حينما تلثم قطرات الندى وجنة الفجر.. تعلو جبينه ولا تلبث أن تتواضع حمرة الإشراق فيه فتبدو فاتحة اللون.. تبعاً للفتح الذي يفتحها لله على طالب العلم في يوم عيده.. حينما يشعر بلذة المعرفة فينتشي بها.. ولربما أصابه الغرور أحياناً الذي لا يلبث أن يتضاءل ويصغر أمام تذكر نصيحة أستاذ له بأن لا يتعجل النشر.. وهي نصيحتك التي لازلت أتذكرها، وقد أفدت منها كثيراً.
إن مسرى النور في قلب المؤمن كفيل بأن يضيء له ظلمات الطريق، وقد يأخذ الحكمة من الأعمى فلا يسير في كل طريق إلا بعد أن يختبر بعصاه كل الطرق حتى يجد أمهدها وأيسرها.. كما أن (حاطب الليل) ذو شأن وأهمية لأنه لا بد وأن يجد حطباً يابساً صالحاً للاشتعال فيتدفأ به في زمهرير الشتاء أو يضع بعضاً منه تحت (حلة) طعامه بين الأثافي الثلاث التي تعلوها (حلة) الطعام، ويوقده لينضج طعامه، ولن يقف أمامه اخضرار الروض الملتف حوله، لن يقف عثرة في طريقه ليجد ما ينتفع به من حطب جاف يابس يصلح أن يكون ناراً لنور على حواف دربه!!
وهو حتى وإن بدا له الاحتطاب بعيد المنال في هاجرة النهار، فإنه لم ولن يحرق الأعشاب الخضراء.. بل قد يركن إليها مستلقياً على جانبه ليسمع حفيفها والنسيم يمر فوقها، وقد خلا المكان من أصوات الضوضاء التي تمتلئ بها الحياة.. وقد يمر طائر حينذاك في صباح يوم جميل فيقف على غصن نبتة الصبار.. يلثم زهرها الأبيض المسمى بالشهد، والغصن يميل به يمنة ويسرة لكنه لا يهوي فليس هناك ريح عاتية إنما هي رياح رحمة.. في حين يحاول طائر مثله الوثب متشبثاً على غصن نبتة أخرى، لكنه لا يفلح.. رغم محاولاته العديدة، فيهوي ويهوي إلى الأرض يبحث عن بقايا شهد الصبار التي قد تقع من اهتزاز الغصن بشكل عنيف نتيجة إصراره على التسلق أو بفعل الريح العاتية.. لكن هيهات فهو لم يسبح لله كالطير الأول الشجاع!! إن الصبار قد صبر طويلاً على الظمأ، وامتلأت تفرعاته بشوكه المدبب.. لكن يداً طالت ذلك الشوك فقطعته لتجريده من أبسط أسلحة الدفاع عن النفس فأصبح ملمس الصبار أملس كذراع لحسناء تنتظر الطائر كل صباح ومساء فهو حبيبها تنتظره كل يوم ليقف على غصنها الطويل الذي يتوسطها.. يغدو أخمص ويعود بطيناً، فرزقه في السماء وعده به خالقه وخالق كل شيء في الأكوان وأقسم به قائلاً:{فَوَرَبِّ السَّمَاء وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِّثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُونَ} (23) سورة الذاريات.
إن الجذل ليملأ نفوسنا حينما نتأمل الطبيعة على حقيقتها فصراع الطير من أجل لقمة عيشه وتحليقه في السماء وهو قابض جناحيه يعدو بسرعة الرياح.. كل هذا يثير في النفس الإعجاب بحرية هذا الطائر ويجدد الأمل في النفس بأن تبحث عن انطلاقة لها في فضاء تحلق فيه وينظر صاحبها إلى أفق أرحب أمامه ويقف على أرضه أصلب تحته.
|
|
|
|
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى
chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى
admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved
|