ذكريات العمير عن (الجزيرة) و(ابن خميس) في كتابه .. «بداياتي في الصحافة والأدب»
|
في عام 1379هـ كنت لا أزال موظفاً على ملاك رئاسة القضاة بالمنطقة الغربية وأقيم بجدة.. وفي ذلك الحين توحدت رئاسة القضاة بالمملكة برئاسة سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم (رحمه الله) وأصبح المركز الرئيسي لجهاز الرئاسة هو الرياض، وكان تكوين الجهاز وتوحيده في الرياض يحتاج إلى المزيد من الموظفين.. فكانت الرئاسة تغري موظفي المنطقة الغربية بالانتقال وتشجعهم على ذلك بمختلف الوسائل المادية والمعنوية!!
ورغم أن أحدا لم يطلب مني الانتقال إلى الرياض إلا أنه خطر على بالي ذات ليلة أن أجرب حظي في الانتقال للرياض، خاصة وأنه ليس عندي ما أخسره، إذ لست من أهل جدة، ولا تربطني أية مصالح أو أملاك أو نحو ذلك من الارتباطات!!
ثم لست أدري كيف خطر في بالي قول الشاعر:
إذا كنت ذا رأي فكن ذا عزيمة
فإن فساد الرأي أن تتردّدا
وهكذا تم سفري إلى الرياض.. ولا أزال أذكر الآن بوضوح دخولي في صباح يوم على فضيلة المدير العام للرئاسة، وكان أستاذنا الشيخ عبدالله بن خميس هو المدير العام. فسلمت عليه وقدمت له نفسي.. وكأنه فوجئ بهذا الموظف الشاب الذي يدخل عليه فجأة ويجلس بجوار مكتبه دون إذن.. إلخ.. فأراد أن يسبر غور هذا الشاب.. وهكذا قال لي:
إذن أنت من موظفي الرئاسة في المنطقة الغربية..
فهل قدمت منقولاً.. أم أنت في إجازة؟!
قلت له: لا هذا ولا ذاك يا سيدي.
قال: إذن ماذا؟!
قلت له: إنكم تشجعون موظفي المنطقة الغربية على الانتقال للرياض وتغرونهم بالمكافآت..!
ما أنا فقد جئتكم بنفسي.. هكذا من الله لله.. فإن قبلتم بي شكرتكم، وإن كان غير ذلك فلي في الأجهزة الحكومية الأخرى مندوحة!
فلم يسعه غير الابتسام.. ابتسامة مدهوش من هذا الشاب الجريء (كان عمري حينذاك حوالي 25 عاماً).. وهكذا صدر الأمر بتعييني في المركز الرئيسي لرئاسة القضاة، وبإدارة (المطاوعة) بالذات!!
ولكني لم ألبث مدة غير مدة يسيرة حتى فوجئت ذات يوم بساعي فضيلة المدير العام الشيخ عبدالله بن خميس يقف على رأسي ويقول لي:
أنت العمير
قلت: نعم
قال: الشيخ عبدالله يبغاك!!
قلت له: يبغاني أنا!!
قل: نعم و(هالحين)!!
وهنا شعرت بشيء من الاضطراب إذ ما عساه يريد المدير العام من موظف صغير يعمل في
(إدارة المطاوعة)؟ ولكني تمالكت نفسي، واستجمعت جرأتي وذهبت إلى فضيلته.. فاستقبلني باهتمام خاص قائلاً لي:
أنت (علي محمد العمير) أليس كذلك؟
قلت: نعم أنا هو على الخير والشر.. فضحك للتورية بسماحة نفس، وحنان والد، وعطف أستاذ.. ثم نشر جريدة (الرائد) بين يديه.. وأشار إلى الصفحة الأخيرة حيث كان لي مقال مطول، وكان بالصدفة العجيبة عن الأدب الشعبي.. وكأنه أعجب أستاذنا وشيخنا فتذكر أن شاباً قد راجعه منذ أيام وتم تعيينه بالرئاسة، ولعل هذا الشاب هو نفسه كاتب المقال فسأل عني فقيل له إنني في (إدارة المطاوعة) وهكذا أرسل لي للتأكد من جهة، وليعرض عليّ العمل في مجلة (الجزيرة) التي كان قد أنشأها فضيلته حينذاك.
فلما أكدت لفضيلته أنني بالذات العبد الله كاتب المقال الذي كان بين يديه.. ثم أكدت له أيضاً أن عرضه هو أمنية بالنسبة لي، وأنني سأكون في غاية السعادة وأنا بالقرب من أستاذيته.. وهنا قال لي:
نبدأ إذن منذ الليلة.
قلت: ولكن هناك مشكلة صغيرة، وهي أنني لا أعرف الرياض.. فلعلكم تأمرون سائقا يأتي لإيصالي وإعادتي.. ففاجأني بالسؤال عن مكان إقامتي.. فقلت له:
إنني أقيم في فندق رخيص في (حلة العبيد).. ولكن المؤسف أنني لست عبداً فأنا غير جدير بالانتساب إلى (الحلة)!!
ورغم أن هذا التبسط مع فضيلته، وهو المدير العام وهو صاحب الجزيرة، وهو الأستاذ الكبير، يعتبر أي التبسط سوء أدب من غير شك.. ولكنني لم أقصد سوء الأدب.. بل أردت السخرية كما هو طبعي!!
وقد أدرك فضيلته ذلك فحمله على الوجه الحسن.. بل ضحك أيضاً.. ثم قال لي:
تعال إليّ في نهاية الدوام، وسأوصلك إلى فندقك.. ثم سأحضر بعد العصر لآخذك إلى مقر المجلة، وأريك معالم الطريق.. إلخ.
وهكذا كان!!
وإن أنس.. لا يمكن أن أنسى ذلك اليوم، ومدى فرحتي.. بل سعادتي المذهلة بتواضع الشيخ حتى إنني عندما ركبت معه في السيارة وهو يقودها بنفسه ركبت في المرتبة الخلفية وأنا أظن أن ذلك هو الأدب بعينه.. ولم أعرف خطئي إلا بعد حين.. وعندما عرفت ذلك عرفت أيضا مدى ما يتمتع به أستاذنا من كبر نفس، وسعة حلم. فهو لم يقل لي: تعال هنا بجانبي.. ولم يأنف من أن يقود السيارة، وأنا في المرتبة الخلفية، وهو وحده في المرتبة الأمامية!!
أوصلني حتى باب الفندق المتواضع.. بل الحقير الذي أقيم فيه.. وذهب ليأتيني بعد صلاة
العصر.. ولكني منذ تركني حتى جاء لي وأنا في غاية الاضطراب من هذه المفاجأة غير المحسوبة!!
لقد كان ذلك اليوم نقلة كبيرة حقا في حياتي!!
جاءني الشيخ بعد العصر حسب وعده، وأخذ يريني في الطريق بعض المعالم التي سأهتدي بها فيما بعد.. ثم سمعته أخيراً يقول لي:
نحن الآن في (شارع الخزان) وهذا هو (حي الفوطة) وها هو المدخل إلى منزلي.. وذلك هو المنزل أمامك.. فلما ترجلنا من السيارة كانت أمامنا (فيلا) صغيرة لطيفة.. وقد ظننتها مكتب المجلة، وإذا هي منزل الشيخ. ومكتب المجلة في آن معاًََ!!
لقد أفرد جانبا من (الفيلا) لعمل المجلة، ولم يكن هذا الجانب أكثر من غرفة واحدة.. كان الشيخ الأستاذ يقوم بنفسه بكل أعمال المجلة تقريباً لا يساعده بصفة ثابتة غير أخ عزيز هو الأستاذ (إبراهيم السيف) أحد موظفي الرئاسة ايضاً، وكانت لغته جيدة فهو يقوم بتصحيح البروفات وما إلى ذلك.
وبعد التعارف.. وما إليه فوجئت بالشيخ يسلمني ملفاً ضخماً.. وهو يقول:
هذه رسائل القراء.. عليك بتحريرها والاهتمام بها وخذ ما شئت من صفحات المجلة لركن القراء.. فتبادر إلى ذهني فوراً أن الشيخ يريد اختباري، ولم أكن أتوقع ذلك.. فحزّ في نفسي، ولكن لم أقل شيئاً.. بل أبديت استعدادي.. ثم اكتشفت بعد ذلك أن الشيخ لم يقصد اختباري قط.. وإنما لم يكن يجد من يقوم عنه بهذا العمل، وهو صاحب مشاغل كثيرة في منصبه وفي المجلة.. وهكذا بدأت في مجلة الجزيرة بتحرير بريد القراء.. ثم لم تمض غير مدة يسيرة حتى أصبحت سكرتير تحريرها.. ثم مديراً لتحريرها.. ثم مديراً مسؤولاً أي مقام رئيس التحرير ولذلك قصة ستأتي بعد!!
المهم أن الشيخ كان يكلفني بالتدريج بعمل تلو آخر سواء في مكتبه بالرئاسة بعد أن انتقلت إليه من (إدارة المطاوعة) أو في المجلة.. وكان يزيد من تكليفي كل ما زاد حماسي، وسرعة إنجازي لأي عمل يكلفني به.
لقد كنت في غاية الحماس.. وكان وقتي يسعفني.. كان حسن ظن الشيخ بي يتزايد يوما بعد يوم فأزداد أنا حماساً واندفاعاً في العمل إلى أقصى ما يمكنني!!
وزاد قربي من الشيخ عبدالله بن خميس إلى الحد الذي اصبح معه يعتمد عليّ في أشياء كثيرة، وبعضها كان المفروض أن يقوم به بنفسه، ولكنه كان يكلفني حتى بتلك الأمور التي تخصه، ومن ذلك على سبيل المثال أنه كثيرا ما يسلمني أسئلة صحفية وجهت إليه بصفته الرسمية والأدبية.. وكان وقته لا يسمح له بالتفرغ للإجابة
عن الأسئلة الصحفية فكان يعطيها لي.. وأقوم أنا بإعداد الإجابة باسمه بعد أن أحصل على المعلومات الرسمية المطلوبة.. والعجيب أنه كان يقرأ إجاباتي ولا يدخل عليها أي تعديل بالحذف أو الإضافة إلا فيما ندر.. فكنت أزهو بذلك وأفرح به بيني وبين نفسي!!
والأكثر طرافة في هذا الصدد أن الشيخ عبدالله كان يقوم بالتسليم في رئاسة القضاة، ويقوم بالاستلام في الوقت نفسه بوزارة المواصلات حيث أصبح وكيلا للوزارة، فكان مزحوماً تماما.. وفي هذه الأثناء قدم له أحد المؤلفين مؤلفه ليكتب له مقدمة.. وكان المؤلف ملحاحاً في طلب المقدمة والشيخ يعتذر ويعتذر حتى كان ذلك اليوم الذي ضاق فيه الشيخ عبدالله ضرعاً بشدة الالحاح.. فاستدعاني ليقول لي:
خذ هذا الكتاب يا أخ علي واكتب له مقدمة باسمي، وليكن ذلك سريعاً دهشت كثيراً.. وقلت له:
من أين لي علمك.. ثم أسلوبك المميز؟
قال: أما العلم فأعتقد أن معلوماتك عن موضوع الكتاب جيدة(1).. وأما الأسلوب فلا يهمك.
وقد كتبت المقدمة بالفعل، وحاولت فيها تقليد أسلوب الشيخ.. وأظنني قاربت في التقليد مما أثار ضحك الشيخ عبدالله وهو يدفع لي بالمقدمة ويأمر بطبعها كما هي دون أن يزيد أو ينقص حرفاً واحداً.. وكان ذلك فيما بعد مثار تندر فيما بيني وبينه وبخاصة عندما تلقى ثناء المؤلف على قوة المقدمة!! أو عندما يأتي ذكر هذه المقدمة في مناسبة أو أخرى!!
***
بعد ثلاثة أشهر من عملي في (الجزيرة) كمحرر متعاون.. تم
تعييني سكرتيراً للتحرير.. وأصبحت أتحمل معظم أعباء عمل المجلة إلى جانب عملي في (رئاسة القضاة) ورغم انهماكي الشديد في العمل كنت أجد الوقت للقراءة.. ذلك أن انتقالي إلى المدن الكبيرة كان الهدف منه أساساً هو كما ذكرنا من قبل القرب من مصادر الاطلاع.. فأما الصحف والمجلات فقد أصبحت أحصل عليها مجانا سواء مما يصل إلى الجزيرة أو مما يرد للشيخ عبد الله نفسه.. كما أن وضعي في الجزيرة أصبح يتيح لي الاطلاع على الكتب الجديدة التي ترد إلى المجلة باستمرار.. وذلك إضافة إلى الكتب التي أشتريها من المكتبات إلا أن حالتي المادية لا تسمح لي بشراء الكتب التراثية المتعددة الأجزاء.
ولذلك كنت أنتهز الفرص لزيارة المكتبة العامة في الملز، وكانت لا تسمح بالإعارة.. فلا أستطيع أن اقرأ فيها كثيرا لحاجتي إلى الوقت في عملي.. ولكن بعد تكرار زياراتي للمكتبة، وبعد حادثة طريفة حصلت لي في المكتبة (لا مجال لذكرها هنا) رأى أمين المكتبة، وكان حينذاك الشيخ حسن الشنقيطي.. أن جدّيتي في القراءة تستدر العطف والاستثناء فمنحني استثناء خاصاً بالفعل، وهو سماحه لي بأخذ ما أريد من الكتب لقراءتها في المنزل.. ثم إعادتها لأخذ غيرها.. إلخ.
وقد أتاح لي هذا الاستثناء فرصة رائعة للاطلاع على عدد من أمهات الكتب الأدبية.. كنت لا أنام إلا لماماً.. أسهر الليل في القراءة، وكذلك بعد وجبة الغداء.. أما أول النهار ففي عملي الرسمي وأما بعد العصر إلى ما شاء الله فأكون في عملي بالمجلة، ولكونها مجلة شهرية كان أكثر عملها عند قرب نهاية كل شهر.
أما في سائر الشهر فلا يستغرق مني العمل فيها أكثر من ساعتين إلى ثلاث ساعات يومياً
وكانت سعادتي لا حد لها، وأنا أسامر تلك المجلدات الضخام.. وأعب منها عباً.. وأعيش معها في تحفّز مستمر لطلب العلم وتحصيل المعرفة.. وكنت ولا أزال سريع القراءة، سريع الاستيعاب!
وكانت كثرة مطالعاتي تنعكس بسرعة على كتاباتي، وكان ذلك يلفت نظر الشيخ عبدالله بن خميس عندما يقرأ مقالاتي.. وكان يقول لي:
إنك تتقدم بسرعة كبيرة يا علي!
والواقع أن تقدمي المستمر لم يكن بسبب القراءة فحسب.. بل كان لتشجيع الشيخ عبدالله أثره الكبير في نفسي.. وكان جزاه الله عني خيراً لا يبخل بتشجيعي وتوجيهي ودعم ثقتي بنفسي.
وفي تلك الأثناء تم تعيين الأستاذ (عبدالعزيز الربيعي) مديراً لتحرير المجلة.. وكان من الواضح منذ البداية أنني لن أكون على وفاق معه لاختلاف الطبيعتين عندي وعنده.
وقد زاد من إمكانيات الخلاف أن الشيخ عبدالله كان يعهد إليّ بإجازة مواد المجلة من مقالات وقصائد وقصص.. ثم أقوم بتسليمها للأخ الربيعي، وفي ذلك مصادرة لحقه الطبيعي، وهي مصادرة لم أسع إليها بنفسي.. بل فرضها صاحب المجلة.
وهكذا كان الخلاف بيني وبين الربيعي منذ البداية.. ولكنه كان خلافاً صامتاً إلى أن تفجر بسبب حادثة لابد من ذكرها هنا..
لقد أهدى الأستاذ (سعد البواردي) كتابه (شبح من فلسطين) للشيخ عبدالله بن خميس، وطلب منه إبداء رأي
المجلة.. إلخ.
وقد فوجئت حقاً عندما أرسل لي الشيخ عبدالله الكتاب المذكور.. وقد شرح عليه بما نصه:
(الأخ علي.. لإبداء رأي المجلة).
سعدت كثيراً بهذا الشرح، وشعرت أن الشيخ قد أناط بي مهمة كبيرة حقاً.. وينبغي أن أكون عند حسن ظنه.
وكنت أدرك أن المسألة ليست هينة.. فالأستاذ البواردي من الكتاب المرموقين في (اليمامة) ومن الشعراء المعدودين كذلك.
أما أنا فلست من الشهرة في شيء بالقياس إلى البواردي حينذاك !! وهكذا أقبلت على نقد كتابه بحذر شديد.. ولكن من غير أدنى تهيّب على الإطلاق.
قرأت الكتاب جيداً.. ودونت ملاحظاتي بحرص شديد.. ثم كتبت مقالا نقدياً مطولاً جعلته على حلقتين.. ما زلت أذكر إلى الآن كيف استقبل الشيخ عبدالله الحلقة الأولى.. وقد قرأها بحضوري فكان يرفع حاجبيه بين حين وآخر. ثم يبتسم بين حين وآخر أيضاً.. ثم لاحت على وجهه علامات الاغتباط.. اغتباط الأستاذ بتلميذه.. ثم عندما انتهى من القراءة شرح عليها بالنشر دون أن يحذف أو يضيف حرفاً واحداً.. ثم حدجني بنظرة باسمة وهو يقول:
(لقد بدأت متاعبك يا علي!!).
وقد صدق ظن الشيخ.. فما هو غير أن صدر العدد الذي نشرت فيه الحلقة الأولى من المقال حتى قامت القيامة الأدبية.. في الرياض.. فقد
استكثر الأستاذ البواردي أن توجه له كل تلك القسوة في النقد من شاب صغير.. لا يساويه شهرة.. ولا يدانيه أعواناً (أخطأ في الأخيرة فقد كان عوني بعد الله هو الشيخ عبد الله نفسه.. وقد وقف إلى جانبي بحزم)!!
وهكذا أصبح مقالي ذاك حديث المجتمع، ومصدر انزعاج شديد لدى الأستاذ البواردي ومن معه.. وقد عمل المستحيل دون نشر الحلقة الثانية من المقال.. ولم يكن هناك من يستطيع ذلك غير الشيخ عبد الله نفسه، وقد رفض بإباء وشمم أن يخذلني.. ولكن الوساطات مع الشيخ إلى حل وسط وهو أن أتوقف أنا عن نشر بقية مقالي لقاء أن يكون رد البواردي غير مثير لي بأي حال من الأحوال.. ولم يوافق الشيخ عبد الله على ذلك إلا بعد أن وافقت أنا!!
وهكذا كان.. ولا يمكن أن أنسى مدى الضجة التي حدثت بسبب مقالي ذاك، وهي ضجة لم يزدها الرد البارد من قبل البواردي إلا تأججاً واشتعالاً.
وكانت تلك أول تجربة لي.. تجربة حقيقية رائعة مع النقد الأدبي.
وأعترف الآن أنه لولا تشجيعي على الكتابة من قبل الشيخ عبد الله.. ثم وقوفه معي بعد ذلك لما أتيح لي أن أخوض تلك التجربة الرائعة!! على صغر سني، وقلة تجاربي!!
وقد كان صغر سني وحده تقليلاً من شأني عند (البواردي) حيث وصفني في رده بقوله: (ناقد الجزيرة الشاب) وكرر ذلك كثيراً.
***
بعد ذلك بفترة يسيرة تم تعييني مديرا للتحرير فلم يزد اللقب الجديد شيئاً من أعبائي العملية، وإن كان قد رفع من مكانتي الأدبية والاجتماعية.
ولقد ثارت لهذا التعيين
ضجة أخرى في الأوساط الأدبية في الرياض حيث كثر حسادي، وزاد نصيبي من الكيد الرخيص والدس الدنيء.. وكان الكثير من ذلك يصل إلى الشيخ عبد الله لا يجد منه غير الصد والرد.. بل لا يجد منه غير المزيد من تشجيعي ودعمي.. ومهما قلت في هذا الصدد فإنني لن أستطيع الوفاء بحق الشيخ الجليل. فليجزه الله عني كل خير!!
***
بعد تعييني مديراً لتحرير مجلة الجزيرة بفترة يسيرة، استدعاني الشيخ عبد الله بن خميس ذات يوم في مكتبه بوزارة المواصلات.. وقد أصبح في منصب وكيل الوزارة.. وقال لي ما معناه إن صاحب السمو الملكي الأمير فيصل بن عبدالعزيز (جلالة الملك فيما بعد) قال له:
لا يمكنك يا عبد الله الجمع بين منصبك وبين رئاسة تحرير الجزيرة فعيّن من تراه لمنصب رئيس التحرير.
وقد عينتك يا علي رئيساً لتحرير المجلة فذهلت لبرهة من الوقت.. ثم استجمعت شتات ذهني لأقول له:
لا والله.. لن أكون رئيساً بدلاً منك.. ولكني أقترح ما دام الأمر كذلك أن أضيف إلى لقبي كلمة (المسؤول) فيصبح لقب وظيفتي (مدير التحرير المسؤول) مع الإبقاء على اسمك في (ترويسة) المجلة كصاحب امتياز.. وهكذا يتحقق ما أراده سمو الأمير فيصل دون أن يجد في المجلة أي جديد غير كلمة (المسؤول) إياها!!
وهنا ابتسم الشيخ عبدالله.. وقال لي:
شأنك ما تراه!!
وأعترف الآن أن رفضي لرئاسة التحرير كان نتيجة ذكاء، لا يواتيني مع الأسف في كل وقت.. ولكنه أسعفني في هذا الموقف إذ لو قبلت رئاسة التحرير لتعرضت لمتاعب لا حصر لها.. وأقلها عدم ملاءمة المنصب لسني الصغيرة.. وألعنها إمكانية زيادة الحساد ووشاياتهم ومتاعبهم.. وفضلاً عن ذلك فإنني لو قبلت رئاسة التحرير وأنا في مقتبل شبابي.. فإنني لن أستطيع أن أعمل في الصحافة بعد ذلك إلا في هذا المنصب، وهو أمر مستحيل.. فأكون قد أحرقت نفسي كما هو الاصطلاح الصحفي.
وأعتقد أن الشيخ عبد الله قد أدرك ذلك.. فكانت ابتسامته تلك، ولا غرابة.. فهو شديد اللماحية، سريع البديهة.. ثم أنه يعرفني جيدا، ويعرف طريقتي في النظر إلى الامور، وهي طريقة فيها غير قليل من نزق الشباب، ولكنها لا تخلو أحياناً من رصانة أكبر من سني!
أما كوني قد أصبحت (مدير التحرير المسؤول) فإن ذلك لم يقدم ولم يؤخر بالنسبة لي فقد كنت أقوم بهذه المهمة بالفعل.. وهكذا سارت الامور على خير ما يرام.. بل أكثر ما يرام.
وأما كيف سارت الأمور بأكثر مما يرام فقد فوجئت ذات يوم بدخول الشيخ (حسين المنصوري) وكان وقتها مدير عام الوزارة، وكنت ما زلت أعرض بعض الأوراق على الشيخ عبد الله بصفته وكيل الوزارة وبصفتي سكرتيره.
دخل الشيخ المنصوري فلملمت أوراقي وطلبت الاذن بالخروج لأخلي بينه وبين سعادة الوكيل وإذا به أي الشيخ المنصوري يقول لي:
اجلس.. يا علي.. أبغاك!!
وعلى الفور قال للشيخ عبد الله:
لقد كلفتني بتعيين مدير لمكتب الإعلان والنشر من بين موظفي الوزارة، وقد فكرت في ذلك فلم أجد من يصلح لهذه الوظيفة أكثر من الأخ علي حيث إن من يشغل مدير الإعلام والنشر.. لا بد أن يشغل في الوقت نفسه رئاسة تحرير مجلة الوزارة (ندوة المواصلات) فالخبرة بإصدار مجلة وبالإعلام والنشر متوفرة في الأخ علي.. ولمعرفتي بمدى ارتباطه بكم جئت أستأذنكم في تعيينه.
وهنا قال له الشيخ عبد الله:
ولكنني لا أستغني عن الأخ علي في عمله معي بالوزارة، وليس في مجلة الجزيرة فحسب.
قال له الشيخ المنصوري:
أعرف.. أعرف.. ولذلك جئت أستأذنك.. فإذا كنت تريد مديراً للإعلام والنشر ورئيسا لتحرير مجلة الوزارة فليس عندنا غير الأخ علي.
وكان هذا الحوار يدور على مسمع مني، دون أي تعليق من جهتي، ولكنني كنت أفكر بسرعة.. ولذلك لم أفاجأ عندما قال لي الشيخ عبد الله:
وأنت ما رأيك يا أخ علي؟!
فقلت له: وأنا أتصنع الجد.. إن عندنا في الجنوب مثلاً شعبياً يقول: (أنا يتيمة موكّلة) وهو مثل تقوله أية فتاة يتيمة عندما يعرض عليها الزواج.. ومعناه أنه لا رأي لها.. فانفجر.. الشيخ المنصوري ضاحكاً.. وجاراه الشيخ عبد الله.. ثم ضحكت أنا أيضاً على نفسي!!
وهكذا تم تعييني مديراً للإعلام والنشر ورئيساً لتحرير مجلة الوزارة.. إضافة إلى كوني مدير التحرير المسؤول على المجلة الجزيرة.. فضلاً عمن يقوم بكل هذه المهام وهو دون الخامسة والعشرين من عمره إذ لا بد أن يكون عرضة لكل سهام النقد والاستنكار.. ولكن كل السهام تحطمت على صخرة صلدة اسمها (عبد الله بن خميس) إذ لم يكن يبالي بالآخرين إذا اقتنع هو.. وكنت أنا ايضا صخيرة صغيرة إن صح التعبير لا بأس بها!!.
|
|
|
|
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى
chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى
admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved
|