كيف غاب ابتسامه ومراحه |
وخبا وهو شعلة مصباحه |
وانطوى وهو في شباب أمانيه |
مطل على ذراها جناحه |
أكذا؟ تنتهي الحياة سريعاً |
كالسنا راح واختفى لماحه |
ما حياة الإنسان في هذه الدنيا؟ |
وماذا شقاؤه وارتياحه؟ |
رحلة إن تطل تُمل وإن تقصر |
تساوي إخفاقه ونجاحه |
رأس مال الأديب قلب رقيق |
والصدى من شعوره أرباحه |
(يا علي يا أبا حمود) لقد أبكيت |
قلباً تعصي الدموع جراحه |
كيف أنساك يا صديقي وما زال |
بقلبي من ذلك اللطف راحه؟ |
يتلقاك بالبشاشة والبشر |
وفي عمق روحه أتراحه |
ساخراً بالحياة يضحك حتى |
غاظها منه هزله ومزاحه |
ضحك الفيلسوف قد عرف الدنيا |
فكان المزاح فيها سلاحه |
كنتَ في ليلة الوفاة ضحوك السِّنِّ |
جذلان قد زهت أفراحه |
مرحاً تنثر الدعابة والتنكيت |
والبشر مشرق وضاحه |
فاذا بالقضاء يفجعنا فيك |
صريعاً والموت حمر رماحه |
وإذا بالمنى تعود منايا |
وإذا بالغناء يعلو نواحه |
صدمة زلزلت نفوس محبيك(1) |
وأنت الحبيب(2) رقت رياحه |
خُلُقٌ كالنسيم يعبق بالريحان |
والورد ليله وصباحه |
وجبين تطل منه على نهرٍ |
وزهرٍ قد رف عطراً أقاحه |
يا أخي يا (علي العمير)(3) عزاء |
في صديق صفا ورقّ قراحه |
كان منك الأخ الشقيق وداداً |
نسب الود كالنضار صراحه |
رحم الله ذلك الخلق السمح |
وفاضت بالعفو عنه بطاحه |
(ذو الحجة عام 1398هـ). |
وكما صوَّره شاعرنا الكبير (محمد السنوسي) في مرثيته، إنه كان شخصية اجتماعية ظريفة جاذبة، يتسامى عن الضغينة، والحقد، ولم يكن الثراء، وجمع المال في أرصدة بنكية من اهتماماته فقد كان ممن يؤمن بقاعدة (اصرف ما في الجيب يأتك ما في الغيب). |
كنت إذا ذهبت الى (جيزان) زائراً في الأعياد يرسل عائلته الى (صامطة) لنقضي الاجازة في مكتبته المنزلية، وتدور بيننا المناقشات والمدارسات، وكنت أحرص أن أجلب له بعض الكتب، والدواوين الجديدة لعدم وجود مكتبات في (جيزان) وأقرأ من مكتبته ما ليس في مكتبتي. |
وإذا جاء إلى الرياض يحل في شقتي المتواضعة رغم وجود كثرة من أصدقائه ومحبيه من طلبة الجامعة وأساتذتها الجنوبيين. |
في بداية حياتي وإقامتي بالرياض قبل أن أتعرف على المجتمع الأدبي والصحافي فيها شعر إنني أعاني من الوحدة فنصحني بصدق وإخلاص، وكان صائباً فيها، وكنت أثق في نصائحه.. قال لي: |
يجب أن تصمد لأنني أحس أن مستقبلك في الرياض كعاصمة سوف يكون أثره على مواهبك كبيراً ومهماً، وسيكون لك شأن ومكانة أفضل من غيرها من مدن المملكة، ومن خلال عصاميتك التي أعرفها فيك سوف تتجاوز مرحلة البداية هذه، وتنطلق الى آفاق واسعة، وستجد كثيراً من طموحاتك تسعى اليك، وستحفر اسمك بجدارة لتكون واحداً من الأسماء التي تسمع عنها، لا أود أن أذكرك بما قاله (شوقي): |
وما نيل المطالب بالتمني |
ولكن تؤخذ الدنيا غلابا |
تغلَّب على مشاعرك الآنية، واقتحم الحياة والناس عنوة دون تردد، أو تهيب، أو توجس، لا أريد أن أقول لك ما قاله (شكسبير) في عبارته (أن تكون، أولا تكون) بل أقول لك (ستكون) إن شاء الله ولا أزيد. |
وقد صدق، لأن الله وفقني في حياتي الدراسية، والاجتماعية، والأدبية، والصحافية، لقد كانت نصيحة من إنسان غالٍ، وهي نصيحة أثمن من كل الجواهر الثمينة!! |
وحين قرأ تعييني رئيساً لتحرير مجلة (الفيصل) في الصحف أبرق لي بعد صدورها بأشهر بحرارة: |
(أيها الصديق الغالي أهنئ نفسي قبل أن أهنئك، لقد أثبت عن جدارة أنك بهذا المنصب قد تجاوزت نصيحتي، وأصبحت أنا في حاجة الى نصيحتك، وهذه يا عزيزي ليست نهاية الطريق، إن لم أقل بدايتها، إن الشكل والمضمون اللذين ظهرت بهما المجلة جعلت اسمك يتجاوز الحدود الإقليمية، إلى آفاق الوطن العربي الكبير، إنني كلما قرأت عدداً أجد أنه يتجاوز العدد الذي قبله، وهذا مصدر اعتزازي، وإن كنت في الوقت نفسه أخاف عليك، وعلى صحتك، وحقوق أفراد أسرتك، مع قناعتي إنه (من طلب العلا سهر الليالي) وأضيف (والأيام مع أعمق عميق تحياتي، والله يكلأك بتوفيقه). |
وحين أنشر نص برقية صديقي الغالي الأستاذ (علي حمود أبوطالب) تغمده الله بواسع رحمته ليس لما فيها من مديح، وإنما لأنها تعكس شفافية روحه، ونبل سلوكه مع أصدقائه الذين يحبهم ويحبونه. |
ولأن علاقتي بأسرته ما تزال قائمة حتى بعد وفاته، فقد جاءت أمه إلى الرياض مع والده الشريف حمود أبوطالب رحمه الله الذي أسعد بأن أدعوه بصفة (عم) تقديراً له وللصديق الراحل، وقد جاء الى الرياض للعلاج، وكنت أحرص على زيارته في المستشفى مهما كانت ظروفي، فقد كان يعرف عن علاقتي بالصديق الراحل، فيرى فيَّ ما كان يراه في ابنه البار الراحل. |
طلبت من أسرتي أن تدعو أمه إلى المنزل براً بصديقي الراحل، وبعد انتهاء الزيارة حدثتني أم الأولاد بما أثار استغرابها، قالت: هل تصدق ما قالته أم صديقك لي ولبعض الجارات اللاتي دعوتهن على شرفها، لقد قالت حين سألناها عن عدد أولادها قالت (ألف وثلاثة)، ولكبر سنها لم نسألها، مع أن كلامها يثير ألف سؤال، وحين سكتنا قالت: |
لماذا لم تسألوني كيف أنجبت (ألفا وثلاثة من الأولاد)، أنا لست مخرِّفة لكبر سني، ولكني أعني ما أقول، لقد أنجبت أربعة، لكن واحداً منهم كألف.. إنه (علي حمود أبوطالب)!!. |
قلت لأم الأولاد: لقد صدقت هذه الأم، و(علي) هذا صديقي الذي حدثتك عنه حين توفي في حادث مروري، وسافرت الى (صامطة) لتعزية أسرته.. إنه حقاً واحد كألف كما قالت أمه!! |
لقد كان صديقي الغالي (علي حمود أبوطالب) شخصية نموذجية استثنائية يقل مثله في كل زمان، وكل مكان، غالب الحياة فلم تغلبه، لكن أقدار الله أقوى من كل قوة.. لطفك ورحمتك يا رب العالمين. |
|
alawi@alsafi.com |
ص.ب (7967) الرياض (11472) |
(1) كل الناس كانوا يحبونه ويحترمونه، فقد خلقه الله ليكون محبوباً بأخلاقه الرفيعة وتعامله الأرفع مع الآخرين على كل المستويات. |
(2) صفة يخلعها عليه كل من يعرفه. |
(3) علي العمير، الأديب المعروف، كان الاثنان كالأشقاء منذ طفولتهما ودراستهما في (المعهد العلمي) بصامطة، وكان الصديق الراحل أديبا مثقفا. |