مدن للكبار فقط..!! أمل عبد الله زاهد
|
المتجول في أية مدينة سعودية كبيرة خلال فترة الصيف يلاحظ احتقاناً في حركة المرور، وتكتلات من الشبيبة تتجمع هنا وهناك من دون هدف محدد، خصوصاً في الليل ومن بداية دخول ذلك الوقت الذي تبدأ فيه قسوة الحرارة الشديدة التي تميِّز طقسنا في هذا الفصل بالتقلص والانخفاض، ومن إحدى السمات التي صارت تميِّز الصيف في بلدنا أن ينقلب الليل إلى نهار، وحينها يبدأ الشباب بالانتشار في الأرض بحثاً عما يكسر حدة ملله وقسوة ذلك الاحساس القاتل بالفراغ وعدم وجود ما يملأ وقتهم في الإجازة الصيفية، التي تمتد غالباً لمدة ثلاثة شهور أو أكثر تجثم فيها عليهم بظلال ثقيلة من الملل أو كما يُسمى بالعامية (الطفش)، فيدورون في حلقة مفرغة يحاولون بها كسر مللهم، لتنتهي كل محاولة للإطباق عليه والتخلص منه بصورة عكسية فيزداد الملل والطفش تلبساً بهم وإمساكاً بتلابيبهم.
والحقيقة القاسية أننا نعيش في مدن للكبار فقط.. صحراء قاحلة لا يبرد من قيظها واحة خضراء أو عين ماء تخفف من حدة العطش أو من جفاف التربة وتيبس جزيئاتها.. فنحن للأسف لا نهتم على الإطلاق بشبابنا ولا نضع في اعتبارنا أنهم يحتاجون إلى ما يملأ فراغهم، وما يستهلكون فيه طاقاتهم المتأججة والمشتعلة، وما يفرغون فيه تلك الرغبة في التجديد وفي ملء وقتهم بما يكسر سطوة الملل الذي يلفح نهارهم ويمد يده
العابثة ليلطم لياليهم وسهراتهم، وخصوصاً في هذه الأيام التي يطوون فيها صفحات كتبهم وكراريسهم، بعد أن يفرغوا من لفظ المعلومات التي اجتهدوا في حفظها واستذكارها على أوراق الامتحانات، يحتاجون إلى ما يكسر مللهم ويجدد أيامهم.. ما يثير اهتماماتهم فعلاً ويخرجهم من دوائر معينة يدورون فيها غير قادرين على الخروج من مساراتها وقضبانها.
وتقول نتائج الاحصائيات الأخيرة التي أُجريت في المملكة العربية السعودية إن الشباب يُشكِّل أكثر من ستين بالمائة من سكانها، وهو من دون أدنى شك رقم كبير يجعلنا نفغر أفواهنا دهشة واستغراباً، ويحرك مكامن خوفنا وقلقنا ويجعلنا نتساءل عما يقدم لهذه البراعم اليانعة؟! وهل هناك من يفكر بالأجيال الجديدة التي ستقوم برسم خطوط الخارطة الاجتماعية الجديدة للمملكة؟! وهل نخضع المجتمع بشرائحه المختلفة لدراسات منهجية ضافية تمكننا من محاولة النهوض به والأخذ بيده بعيدا عن براثن الفقر والجهل؟! وهل نولي العلوم الانسانية القدر الكافي من الاهتمام الذي يجب أن نعطيه لها في مدارسنا وجامعاتنا؟! وهل ندرك فعلا أهمية هذه العلوم في تقدم الأمم
ونهضتها؟! هل نخطط بصورة جيدة لمستقبل أبنائنا؟! هل نقوم بما يجب ان نقوم به كي ننتشل براعمنا الصغيرة من مهاوي التطرف الذي يشده الى أقصى اليمين تارة أو إلى أقصى اليسار تارة أخرى؟! هل نحاول انقاذه ممن يعبث بفكره ويغرس في تربته بذور الإرهاب والفكر الأحادي الذي يحتكر الحقيقة المطلقة؟! هل نقدم له البديل الذي يغني وقته ويثري فكره ويقدم له التوازن المطلوب بين الدين والدنيا؟ وهل يؤخذ في الحسبان هذا العدد الكبير من الشباب ونحن نخطط لمشاريع جديدة في مدننا؟! وهل يواكب هذا التخطيط احتياجاتهم الفعلية، وما يحفل به زمانهم من جديد يقتحم عليهم القلاع الآمنة التي طالما أحاطت بهم وهدهدتهم برتابتها وسكونها وبتبلد إيقاعها؟!
ولا أدري لماذا نرفع أصواتنا بالتذمر والشكوى من الشباب وتصرفاته التي لا تروق لنا؟!! من تسابق وتفحيط بالسيارات، وتجمهر وتجمع في الأسواق، ومغازلات ومعاكسات للفتيات الآمنات، إلى النقيض الآخر حيث التشدد والتطرف وادعاء امتلاك الحقيقة المطلقة،
والاحساس بالتفوق والتميُّز على باقي خلق الله والحكم على تصرفاتهم ونواياهم، والتشدق بالحديث عن المخطئين والعاصين وكأنما ضمن المرء منهم أنه مقبول عند الله سبحانه وتعالى، ثم التماهي حتى الوصول الى السقوط في بؤرة الإرهاب وارتكاب جريمة قتل الأبرياء، لا أدري لماذا نبادر بالتذمر والشكوى ولا نفكر في المسؤولية الموضوعة على عاتقنا؟! لماذا لا نتساءل هل نؤدي واجبنا نحوهم حتى نطالبهم بتأدية واجبهم نحونا؟!! أم أن الحق فقط لمن بيده السلطة في مجتمعنا؟! فهناك دائما حقوق للوالدين وليس هناك حقوق للأبناء، حقوق للمعلم وليس هناك حقوق للتلاميذ، حقوق للزوج بينما تهضم حقوق الزوجة وهلم جرا.
الشباب تلك المرحلة من العمر التي تموج بكافة التحولات، ويتقلب فيها الشاب أو الشابة على جمار غربلة الأفكار والتساؤلات عن الحقيقة والتشكك فيما حوله ومن حوله، والبحث عن القدوة والمثل الأعلى كما يبحث عن ذاتيته وهويته التي يريد أن يشرئب بعنقه تفاخراً بها.. وفي هذه السن يشتد الحماس وتتدفق الدماء في العروق بحثاً عن أيدولوجية أو فكرة مقدَّسة يهب الانسان حياته في سبيلها ودفاعاً عنها ولذلك يكون فريسة
سهلة وأرضاً خصبة لزراعة الأفكار المتطرفة بوجهيها المختلفين، إذا لم نسلحه بالوعي المتوازن والقدرة على تفهم ما يدور حوله من حقائق.. كما يجب أن نمتلك تلك القدرة على امتصاص طاقاته وقواه في المفيد، واستيعاب تناقضات مرحلته العمرية وتفهم ما تتأجج به أعماقه ومحاولة تهدئة قلقة وإجابة تساؤلاته بكل حب وهدوء، مبتعدين عن التوتر والتشنج ومحاولين أن نجسر لتلك الهوة بين الأجيال حتى نتفهم ما يقلقهم ونضع أيدينا على مكامن جروحهم وآلامهم وما يحرك مكامن خوفهم حتى نتمكن من التعامل مع المشكلات والهموم التي لا يكف زمانهم من إلقائها على عواتقهم الغضة ويضعهم وجها لوجه أمامها.
كي نأخذ من شبابنا يجب أن نعطيه، ولن ينهض الوطن إلا على أكتاف الإنسان، ولن نتمكن من النهوض به إلا بدراسة شرائح المجتمع ومحاولة فهم ما يتعرَّض له من مشكلات وأزمات، وتوصيف وتشخيص أمراضه ومن ثم محاولة تقديم الحلول الناجعة لها، ولن تحل مشاكلنا بدفن رؤوسنا في الرمال وإنكارنا لوجودها، وقبل أن نتساءل لماذا يقبل شبابنا على مشاهدة الأغاني الهابطة والبرامج السخيفة، ولماذا يقوم بتصرفات تزعجنا وتنتهك حرمة أخلاقياتنا ومبادئنا، يجب أن نتساءل ماذا نقدم لهم نحن كبديل يملأ فراغ أيامهم ويعبئ ملل لياليهم؟!!
Amalzahid@hotmail.com
| | |
|
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى
chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى
admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved
|