وقفة مع فلسفة أبي ماضي..!!
|
من اليسير على الدارس لشعر «إيليا أبي ماضي» والباحث في دخائله وأعماقه أن يجد فيه اتجاهات أدبية مشرقة تنم عما يتميز به من خصائص شعرية بارزة تتمثل في شعوره الإنساني المرهف وفي شعره الاجتماعي العاكس لرؤية المجتمع ومنطلقاته.. وتعليل هذا في تقديري يعود إلى بواعث بيئية محلية تقلَّب فيها الشاعر فترة من عمره فهو كما يحكى عنه من أرَّخ لحياته ودرس شعره لم ينل من التعليم المنهجي المنظم سوى ما أتيح لأبناء قريته آنذاك من دراسة محدودة، إضافة إلى أنه عاش في أسرة فقيرة ضيقة الحال، خاملة الذكر والفكر مما أهّله لأن يلامس الحياة الاجتماعية ويتأثر بها ويطيل الوقوف معها في فكره وشعره وتأملاته وبفضل ذلك الواقع الأليم الذي ملك عليه أمره ووجوده قاده دون طواعية أو أناة إلى طريق لاحبة لاهبة جعلته يستلهم الطبيعة الفاتنة التي خلقها الله جلَّ خلقه محاسنها وفتونها ثم يرسمها لوحة شعرية ساحرة تُطرب المسامع والجوانح والقلوب الظامئة. كان أبو ماضي شاعر الرابطة القلمية في المهجر فترة طويلة من الزمان ، أخلص فيها لأدبه وخياله وفنه وسال قلمه هنالك حتى أروى الصحائف والبوادر وأشبعها فكراً وفلسفةً وفناً أدبياً محكماً سجل في قصيدته «أنا وقفة فلسفية ممتعة تتناول مفهوم المجتمع وتصور حياته اليومية الرتيبة ثم تسترسل مواعظ وعبر تكتشف الطباع والشمائل وتدعوها إلى فضائل الصفات والمسالك، استهلها بالنص الآتي ليسمعه الإنسان أينما كان:
«إني لأغضب للكريم ينوشه | من دونه وألوم من لم يغضب | وأحب كل مهذب ولو أنه | خصمي وأرحم كل غير مهذَّب | يأبى فؤادي أن يميل إلى الأذى | حب الأذية من طباع العقرب | حسب المسيء شعوره ومقاله | في سره: يا ليتني لم أذنب» |
ثم يبين عن تجربة أخرى، لها طابعها الإنساني والاجتماعي والسلوكي، ليقربها إلى الافهام والبصائر بالأدلة والوقائع لتجدها داخل بيئتها المحلية وتلمحها بين كثير من الميول والسلوك والتصرفات التي لا تخفى ولا تختفي عن الأنظار وان سببت لها الفزع في كل حين وآن . ويمضي في مركبة الشوط العسير مرددا بألم واستنكار بعض الصور: |
«أنا لا تَغشُّني الطيالسُ والحُلي | كم في الطيالِس من سقيم أجربِ» | «عيناك من أثوابه في جنة | ويداك من أخلاقه في سبسب | وإذا بصُرتَ به بُصرتَ بأشمطٍ | وإذا تحدثه تكشّف عن صبي» |
وفي فلسفته الممتعة مع الطين يحلل بجرأة ويقين تلك المادة المستضعفة، ويضعها في الميزان الواقعي ليذكرها بأصلها وفصلها كي لا تفتر وتتمرد على الواقع البيئي المألوف فتتنكر للأخلاق الإنسانية والبيئية، بل يريدها أن تغتبط بما ملكته من هبات وسمات فتاهت بها عزة وسمو حال، ولا يريدها أن تشط عن ذلك الأصل فتتعالى وتتيه بالكبرياء والإثم: |
«نسي الطينُ ساعةً أنه طينٌ | حقير فصال تيهاً وعربدْ» | «وكسا الخزُّ جسمَه فتباهى | وحوى المالَ كيسُه فتمردْ» |
ويمضى مناشداً أخاه الإنسان أن يظلَّ معه في لقاء وجداني عطوف بين ظلال من الوئام والمحبة والحسّ الشفيف يجمع بينهما التماثلُ والتوافقُ والبواعثُ الغريزيةُ والطباعُ الإنسانية، وكلها تستوجب الالتقاء والحنو وتستدبر التباعد والنشوز وتستنكفه لأنه دخيل طارئ أمام التكوين البشري المتماثل، فيرسل صيحات بهذا مخلصة بالنداء والدعوة إلى مائدة المؤاخاة والتسامح: |
«يا أخي لا تَملْ بوجهك عني | ما أنا فحمة ولا أنت فرقد | أنت في البردة الموشاة مثلي | في كسائي الرديم تشقى وتسعدْ | أنت مثلي يَبُشُّ وجهك للنُّعمى | وفي حالة المصيبة يكمدْ | فلكٌ واحدٌ يظلُّ كِلينا | حار طرفي به وطرفُك أرمدْ | النجوم التي ترها أراها | حين تخفى وعندما تتوقدْ | أنت مثلي من الثرى وإليه | فلماذا يا صاحبي التيهُ والصدْ». |
| عبدالله إبراهيم الجلهم | الرياض |
| | |
|
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى
chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى
admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved
|