الشاعر المتشائم إيريك فونيه
|
اكتشفتُ محمد الماغوط حين كنت أدرس اللغة العربية في سوريا، في نهاية الثمانينات، آنذاك كنت أقرأ مسرحية: (كأسك يا وطن)، ثم شاهدت فيلم (التقرير) عندما عرض للمرة الأولى في سينما (الشام) في دمشق، من خلال هذين العملين تبين لي أن النقد الاجتماعي والسخرية هما الميزتان الأساسيتان لإنتاجه، اليوم وقد تقدمت في دراسة الأدب العربي المعاصر, ما زال رأيي هو هو ولكن اعتقد أن القارئ لا يستطيع أن يدعي معرفة هذا الأديب دون أن يكب على شعره وخاصة على المجموعتين اللتين صدرتا في الخمسينات وأوائل الستينيات، أي في بداية مشواره الأدبي: (حزن في ضوء القمر) (1959) و(غرفة بملايين الجدران) (1964). شخصياً اسم الماغوط مرتبط بمجلة (شعر) التي شارك فيها، وبأسماء كأدونيس ويوسف الخال، وبدر شاكر السياب وغيرهم الذين ساهموا في تجديد الشعر العربي شكلاً ومضموناً.
عندما نقرأ شعر الماغوط وخاصة القصائد التي نشرت بين 1959 و1964 أي قبل أن ينتقل إلى فن المسرح، نكتشف أنه يصف الواقع كأرض مخرّبة حيث اختفت القيم الإنسانية ومبادئ الحضارة. في قصيدة (مقهى في بيروت) يقول: (لا شيء يربطني بهذه الأرض سوى الحذاء)، فاستخرجت من هاتين المجموعتين بعض الأبيات الأخرى التي تمثل في رأيي وبشكل واضح أحاسيس الشاعر: شبابي بارد كالوحل (44)1 . الحياة المملة كالمطر بلا ماء (164). وأنا أكشط وحل الأيام المريبة (189). والرجال المشوهون (190). أنتقل من مدينة إلى مدينة أخرى
وحقائبي مليئة بالجراح والهزائم (...)
هجرت رفاقي والدم ينزف من صدورهم وأنوفهم (199200) يا سرطاناً من الحرير
لا المرأة ولا الحرية
لا الشرف ولا المال
يزيل هذا اليأس من قلبي (214)
إن الشيء الملفت للنظر هنا، أكثر من سخرية الشاعر أو روحه النقدي هو يأسه وتشاؤمه ونستطيع القول: إن هذا اليأس وهذا التشاؤم يكادان يكونان موجودين في كل قصائد هذه الفترة. فوسط الظلمات التي تغطي العالم الذي يعيش فيه، يتيه الشاعر ولم يجد بعد الوسيلة أو الطريق الذي يؤدي إلى التجاوز والخلاص، أمام هذا الواقع المرير الذي يرفضه قطعاً، لا يمكنه إلا الحلم بالحرية، حرية متعذر الوصول إليها والهروب هروب الفأر الخسيس كما يقول إلى أماكن أخرى: البحر، السماء، الصحراء، ومن الجدير بالذكر أن هذه الأماكن الثلاثة تحتوي على نفس الدلالات الضمنية: الصفاء واللانهائية وعدم الخضوع لسيطرة الإنسان. وعندما لا ينفلت الشاعر إلى هذه الأماكن، يحلم بالطفولة التي ترمز أيضاً إلى الصفاء والعصيان وإلى ماض لا يمكن العودة إليه.
لقد آن الأوان
لتمزيق شيء ما
للإبحار عنوة تحت مطر حزين حزين
لا كمغامر
تلفه سيول من الحقائب والأزهار
بل كفأر خسيس (130)
هذه النظرة السوداء للعالم تذكّرنا بشعر أدونيس في قصائده الأولى وكذلك بأعمال بعض الممثلين الآخرين لحركة (شعر) إلا أن الماغوط يتميز بفقدان الأمل وباعترافه قصوره الذاتي وضياعه وبالازدراء الذي يشعر تجاه نفسه، على نقيض هؤلاء الشعراء يبدو أنه لا يتوقع أي انبعاث أو تجدد بعد زوال هذه الحضارة الهرمة التي تحتضر وتموت شيئاً فشيئاً. طبعاً لم أطرح في هذه الشهادة الأمور المتعلقة بأسلوب الماغوط وبنية قصائده. سأكتفي بالقول إنه ابتدع قاموسه الشعري الخاص، الغني بالاستعارات والتشبيهات المبتكرة، ونجح في خلق جو يتميز، كما رأيناه، بلونه المأساوي.
* كاتب فرنسي أستاذ في معهد الدراسات العربية باريس
1 رقم الصفحة في (ديوان محمد الماغوط)، دار عودة، 1973.
| | |
|
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى
chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى
admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved
|