(نسرٌ في قفص) محمد أديب قزاز
|
لعل العزلة والنأي بالنفس عن خضم الحياة الموارة بالظلم والقهر، نتيجة تكاد تكون حتمية لدى أكثر المبدعين صدقاً وجرأة في كل ما أنتجوه من أدب وفن.
وكاتبنا الكبير الشاعر (محمد الماغوط) واحد من هؤلاء المبدعين الذين مارسوا تجربة الدنيا وأفعالها وتمرسوا بظروفها القاسية، فهو يقول عن نفسه: (من طبيعتي أن ليس لدي أصدقاء، لا أجلس وسط المثقفين، أحب عزلتي وأحاول الحفاظ عليها، أحب الجماهير وهي بعيدة عني).. هذا الرمز الثقافي الكبير هو اليوم في عزلة إرادية فرضها على نفسه المتمرسة بالحزن والأسى وطبيعته المركبة من خليط الاضطهاد والفقر والخوف والقلق، ثم التمرد والثورة على واقعه وظروفه.. الخوف لديه ليس جبناً، بل هو تخوف من ظلم جديد يضاف إلى ما تجرعه من ألم وحرمان منذ صباه، ما من زائر له وما أكثر زواره! إلا ويدعوه للخروج، لكنه في كل مرة يقول لا أحب الخروج من البيت، فأنا أخشى على نفسي من طبيعتي، وأخاف أن يعكر صفو مزاجي مشهد لا أرغب في رؤيته أو كلام لا يروق لمسمعي، حينها يختل توازني النفسي وقتاً طويلاً، وبذلك أفقد سعادتي التي لا أجدها إلا حينما أكتب.
حزين الماغوط، وحزنه قابع في أعماقه كصخرة الوادي، تواق أبداً لرؤية ملامح الوجه الذي أحب الشاعرة (سنية الصالح) الزوجة التي غيبها الموت.
ما أسعد تلك الورقة التي يلجأ إليها منحنياً على ركبتيه ليفض لها حزنه وحكايته مع اليأس والوجع بطرافة تعاند كل الخيبات التي صدمته وأوصلته إلى الشك بالمقربين والأصدقاء، لكنها لم تلغ إيمانه بمبادئه، فمن داخل بيته يستطيع أن يرى كل شيء دون اللجوء إلى أجهزة بث متطورة، يرى كل شيء ويعنى بكل شيء، إلى درجة الإرهاق، من هنا كان الإخلاص في التعبير عن نفسه بعيداً عن أية صنعة، كل نظرة أو صوت، وكل ألم أو سرور سرعان ما يحققه ويسجله، فإذا ما كتب أو قال كان راضياً، لأنها طبيعته، وفي هذا يكمن سر الطفل فيه، فطبيعته تستحيل في نهايتها إلى سخرية من كل شيء مزعوم وعلى رأسها مظاهر الود الإنساني المصطنع، فحياته الآن ليست انطواءً ولا إخفاقاً ولا ندماً، لكنها الحياة الشاقة، ورغم ذلك يجلس مع زواره بلطف نادر، يرحب بهم من قدس أقداسه، فهو محط أنظار جمهوره الواسع العريض، فهو لا يبرح مكانه على أريكة في غرفة زعم أنها بملايين الجدران، هذه الغرفة التي تحتضن هذا الهرم الإبداعي الكبير تزدحم على جدرانها اللوحات التشكيلية وكأنك في زيارة لمعرض، لعله يرى فيها أنيساً لوحدته، لكن مزاجه المركب لا يحتمل إطالة الزيارة والازدحام فسرعان ما يضجر وينصرف كلياً إلى طقوس الاستماع الدائم والمستمر إلى الطرب، فهو مغرم بلا حدود إلى الغناء الراقي المتقن، وربما يجد فيه ملاذا يداوي به نفسه، ترى إلى جانبه مكتبة زاخرة بأعمال المطربين الكبار ولا يمكن أن تمر به لحظة دون الاستماع حتى أمام ضيوفه مهما كان شأنهم ولا يستطيع أن يكتب كلمة واحدة دون أن تصل إلى مسامعه نغمة محببة لديه، أو أن تكون لفافة التبغ بين شفتيه، على طاولته علب العقاقير الطبية التي تفيد في تنزيل الضغط وطعم دائم الحضور، يأكل كميات قليلة مرات عديدة، وينام مرات عديدة أوقاتاً قصيرة، ولا تحلو له الكتابة إلا حينما يكون الناس نياماً.. فالأستاذ لا يتبع نظاماً ثابتاً في وحدته، ولا تستطيع أن تتنبأ كيف سيتصرف في لحظة قادمة فهو مفاجئ بكل شيء، يكاشفك بما لا تتوقع، وصدقه جارح حتى النزف، ومع ذلك لا ينقطع عن الفكاهة والطرافة بعفويته المعهودة، وبساطته التي تأنف المظاهر والتمظهر، إنه يتصرف بشكل فطري تلقائي كشعره.
| | |
|
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى
chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى
admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved
|