الماغوط مهرج المسرح العربي راشد عيسى *
|
يحق للماغوط أن يكون مهرج المسرح العربي بامتياز. وإذا كان فعل التهريج يعني للكثيرين إسفافاً واستجداء للضحك، فقد أراد له الماغوط أن يكون فعلاً مدمراً، وقحاً، وخارجاً عن سرب الببغاوات، ف (حينما يكون العالم واقفاً على رأسه سيكون ضرباً من الجنون أن ترى العالم عقلانياً). وليس عبثاً أن يُعَنْوِنَ الماغوط مسرحيته (المهرج) بهذا الاسم، فرغم أنها تعتبر شخصية صقر قريش عبدالرحمن الداخل محوراً لها، إلا أن بطلها الحقيقي ممثل مسرحي مهرج، يقود أبطال التاريخ العربي من أنوفهم، لا ليزج بهم في أوضاع هزلية وحسب، بل ليفضح عبرهم الراهن ويعريه. المهرج إذاً هو صوت الماغوط ومعادله الموضوعي، وهو صوت المثقف الذي يريد له الماغوط أن يكون واحداً من سلالة مهرجي شكسبير، حيث تستوي الحكمة والحماقة، السخرية والألم، وحيث التهريج (تصفية حساب عظيمة وساخرة مع العالم الذي خرج عن مداره).
ولكن ما حاجة الماغوط إلى المسرح، وهو الشاعر، بل ورائد قصيدة النثر، الذي قلب مائدة الشعر فوق رؤوس الجميع، كما جرى وصفه دائماً؟ ألأنّ الشعر لا يحتاج إلا لنفسه، فيما تحتاج السخرية للآخر؟ لم يكن الأمر شغفاً بفن المسرح، لقد أراد الماغوط، وهو الساخر والهجّاء الفريد، أن يعثر على قالب يستوعب تلك السخرية، من دون أن يكون معنياً بالشكل والبحث عن تأصيل المسرح العربي وهويته وسواها من عناوين شغلت أترابه من الكتّاب. إنه (ينفي أن يكون عنده نظام مسرحي، ويقول: ليس عندي سوى الصراخ والفوضى)، ثم يلخص حاجته للمسرح بالقول: (الشعر هو موجز الأخبار، في حين أن المسرح والصحافة هي النشرة الإخبارية بالتفصيل). وفي ذلك تسطيح واضح لفهم المسرح، الذي لا يمكن أن يكون تفسيراً أو ثرثرة، فهو فن مختلف له طرائقه وأشكاله، ولا يقل عن الشعر في قوة الإيجاز والايحاء والتكثيف.
هموم الحارة العربية
بدأ الماغوط الكتابة للمسرح ب (العصفور الأحدب) وهي مسرحية لا تقرأ، وغالباً ما تعامل معها النقاد على أنها قصيدة مطولة. ثم تلاها ب (المهرج)، وكلاهما نشر العام 1960. بالإضافة إلى مسرحيته (خارج السرب) (1999) نكون فقط أمام ثلاثة نصوص مسرحية مطبوعة، مقابل أربعة أخرى عرضت ولم يقدم أي منها في نص مطبوع، ولا ندري إن كان ذلك موقفاً نقدياً من الماغوط تجاه العروض التي قدمها بالاشتراك مع دريد لحام.
لا يستوي الحديث عن تجربة الماغوط المسرحية بمعزل عن تجربة الفنان دريد لحام الذي قدم معظم نصوصه، فيما عدا (خارج السرب) التي أخرجها الفنان جهاد سعد، ومنيت بفشل ذريع.
يعرف العالم العربي دريد لحام عبر مسلسلات تلفزيونية من أيام الأبيض والأسود، مثل (مقالب غوار) و (صح النوم) و (حمام الهنا) وسواها، لم يطرح دريد من خلالها هموم السياسة والوطن، وذلك ما جعل همومه (حتى كلمة هموم قد تبدو غريبة على انشغالاته الكوميدية) تتمحور حول الحارة الشعبية الشامية، وللحق فإن ذلك هو ما يحبه الناس لدى دريد، وربما كانت شخصية (غوار الطوشة) واحدة من الأنماط الفريدة في تاريخ الدراما العربية. وعند دخول الماغوط إلى تجربة دريد اعتبر كثيرون أن التجربة وُضعت في مصاف أرقى، بسبب من هموم السياسة التي راحت تخاطب أحلام العرب جميعاً، ما دفع للقول إن الماغوط انتشل دريد من هموم الحارة الضيقة ليأخذه إلى فضاء الحارة العربية الأوسع. وللحق فإن التجربة أساءت لكليهما: هبط الماغوط من علياء الشعر الذي نحب إلى حيز لا يعرف عنه الكثير، وغرق دريد في هموم ليست له، ولعله فقد منذ ذلك الوقت عفويته وطزاجته، وما ظهوره التلفزيوني المفتعل والمدّعى إلا بفعل تلك التجربة.
جاء الماغوط إلى المسرح ليعري ويفضح، ولكنه بفعل الشكل الفني المطروح انقلب على نفسه، فوُسمت تلك العروض بمحاولة التنفيس وب (مسرح النجم الأوحد) والانزلاق إلى مهادنة الجمهور وإضحاكه، إلى ما هنالك مما لا يرضاه الماغوط لنفسه. وبغياب النصوص المكتوبة كان سهلاً أن يلقي كل منهما التبعة على الآخر، في حرب مفتوحة يتكرر صداها إلى اليوم. ولذلك قد تصلح (المهرج) لأن تكون حكماً للفصل في تجربة الرجلين. ففي النص المكتوب، كل الملامح التي حفلت بها المسرحيات المشتركة التالية.
رموز
تحكي مسرحية (المهرج) عن فرقة مسرحية جوالة، جاءت لتعرض أمام المقهى، فيستحضر بطلها، المهرج، بشكل هزلي شخصيات مثل عطيل وهارون الرشيد وصقر قريش، إلا أن الأخير سرعان ما يأتي من التاريخ معترضاً على تقديمه الهازل، ولكن لحضوره وظيفة أخرى، ولنتذكر هنا صوت الأب الشهيد في مسرحية (كاسك يا وطن) الذي جاس يستكشف حال ابنه (غوار) وحال الوطن. صقر قريش، ممثل أمجاد العرب، يصبح فعلاً في موضع هزلي، حين يجري سجنه في مركز حدودي، ويصبح سخرية لرجل الأمن وللراقصة، إلى أن يجري تسليمه للحكومة الإسبانية كإرهابي مجرم، مقابل ثلاثين ألف طن من البصل.
وعدا عن أن الكاتب استغرق أكثر مما ينبغي خارج سياق موضوعه في تقديم شخصيتي عطيل وهارون الرشيد، فقد كان غريباً عنه ميله إلى الخطابة، وهو الذي ينفر من الصراخ والأيديولوجيا، وهذا ما نلاحظه أيضاً في مسرحيات دريد، بالإضافة إلى ميل واضح إلى اللعب على غرائز التلقي الهش واستعطاف المتفرج، والميل إلى كوميديا الكلمات التي لم تصمد زمناً طويلاً حتى باتت ممجوجة وثقيلة الظل.
وعلى مستوى الشخصيات والأنماط الكوميدية، لم يضف الماغوط شيئاً يذكر، فشخصياته عبارة عن أفكار لا ترقى حتى إلى مستوى النمط، وهي محدودة ومكرورة في كل مسرحياته، المسؤول أو رجل الأمن، المواطن الفقير والمقهور، وهو غالباً ما يكون صوت الماغوط تقف قبالته راقصة أو عاهرة لتكشف عن مدى احتفال الثقافة العربية بالعهر مقابل إهمال وتحقير لصوت الضمير. بالإضافة إلى شخصيات، رموز أخرى، فهذه ترمز إلى التمسك بالأرض، مثل (الحجة) في (غربة)، وذاك إلى الثورة القادمة، كالمعلم في المسرحية نفسها. ولا ندري ما يمكن إضافته من شخصيات في مسرح يعتمد على النجم الأوحد، خصوصاً أن هذا النجم كان قدم نفسه سلفاً اعتماداً على شخصية غوار حتى قبل أن يكتب الماغوط مسرحياته. غير أني شخصياً مستمتع بشخصية لعبها الفنان الراحل نهاد قلعي، هي شخصية أبو ريشة في مسرحية (غربة)، الواقف في حالة انتظار أبدي لطائرة تقله إلى العالم البعيد، حاملاً حقيبته وقد جهز الهدايا والمكاتيب ليرسلها من هناك. وبغياب النص يصعب التكهن بمن أنجز هذه الشخصية، خصوصاً أن الفنان قلعي له باع طويل في ابتكار أنماط مسرحية شعبية، وفي التأسيس للفن الأجمل لدريد لحام.
لا شك في أن الشاعر محمد الماغوط لم يكن راضياً عن تجربته المسرحية كما قدمت على الخشبة، ولكن ينبغي له أيضاً الاعتراف بضعف يعتور نصوصه المكتوبة، كما ينبغي الاعتراف بأنه كشاعر غيره كمسرحي، وإن كان هو هو في كل ما كتب، ساخطاً، رافضاً، وشاهراً سوطه في وجوه الجميع.
* (دمشق)
| | |
|
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى
chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى
admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved
|