الماغوط.. كما عرفته فاطمة النظامي*
|
من قلب حاضرة البادية، من قلب تلك البقعة المتاخمة للصحراء، التي ماذاقت طعم الرقاد ولا الاستقرار، المستنفرة دائماً لرد غارة مباغتة والمتأهبة دائماً لملاقاة سيل جارف يحمل الموت أو يهدد بالنزوح، لمواجهة بركان ناشط يتوعد بالهلاك او يرغم على الهجرة عبر جسور وطرق رحيل وعودة مفتوحة على الدوام.. من هناك بدأت رحلة هذا الفارس المترجل الأعزل، إن آثاراً من ترابها الحارق ما تزال عالقة على قدميه.. يحمل بوصلة الشمال بإحدى يديه، وفي اليد الأخرى حفنة الملح التي يتزوّد بها عابر الصحراء، لكن جعبته التي علقها في كتفه بكل أدوات التعجب وأسماء الاستفهام.. هل هو يحمل ذاكرة ارض قلقة منذ دهور أم أن تلك الأرض قد هدأت لتتركه مسكوناً بنيران براكينها، في زمن عاصف متلون متوجع لا تعقم رياءاته ولا تنقي ضميره إلا ألسنة اللهب وحمم البراكين.
لعل المرحلة التي نشأ فيها هذا الأديب الكبير كانت أعتى المراحل التي مر بها الإنسان العربي، ومن أكثرها جدة وإيلاماً بكل ما كانت تعج به من انكسارات وخيبات، من هزائم وانتكاسات، من متناقضات وتمزقات وتشوهات، وممارسات إذلال لا تطاق، لكل ماهو إنساني، ولعل الماغوط هو الأكثر ملامسة لهذا الواقع المحزن والأرهف إحساساً بتلك المحن، والأشد تألماً وارتعاباً من تشوهات وجه العالم، والأكثر سخطاً واستياءً على تلك المفاسد وعلى عالم السقوط والغدر والمذلة.
لقد عمل جاهداً بكل ما أوتي من نبيل المشاعر وقوة الموهبة، وفراسة البدوي وإيمان المحارب الأممي وعبقرية المفكر، كي يخلص العالم من عجزه وكي يحرره من خطيئته الكبرى، ويعيد اليه ملامح وجهه الحقيقي.
إن ظهور الماغوط في ساحة الشعر العربي، هو ظاهرة انفجار كبير خرج من قلب العماء يعلن ميلاد مخلوق جديد وإبداع جديد، إنه نداء إنساني مزّق حجب الظلمات بنشيد منذر مبشّر، يتدفق من ثنايا قلب محفوف بالمخاطر، ومدمٍ بكل ألوان الجراحات، إنه من أعاد إلى الأدب مأثرة الصرخة الإنسانية في أصدق أشكالها وفي عريها المطلق. ومن حفر بأظافره المتوحشة رسائل الحرية على أبواب غرفة بملايين الجدران.
لقد زعزع الماغوط وبمنأى عن الرومانسية التقليدية بناء قصيدة الشعر العربي التقليدي، مثلما زعزع كل المفاهيم البالية التي بلّدت الذهن العربي وخيّمت بتخلفها على المجتمعات العربية ووضعتها في قوالب التحجر والتغيب، وخاض صراعات اليوم من أجل مواجهة رياءات هذا العصر.
لقد عبّر الماغوط بطريقته النقدية، وبروحه المقاتلة الساحرة وبمنتهى الشفافية الشاعرية والسحر الموحي عن كآبة العالم، متوجهاً إلى الإنسان كل إنسان متجنباً الصنعة اللفظية والزخرفية ومترفعاً بالشعر من أن يكون محارة مختنقة في صدفة ربما ستصبح جوفاء بعد حين. لقد كان بحق الأب الشرعي للقصيدة النثرية وللكلمة التي يعرف شاعر كبير أن يضعها في مكان تصبح فيه كلمة شعرية.
ومع أنه شاعر الحداثة الكبير، لكنه لا يتنكر لاهمية الأقدمين، ضمن سيرورة الأدب التاريخية والصراع بين القدماء والمحدثين لا يشغل باله كثيراً.
لقد تحدثت عن الماغوط الشاعر، وإن نسيت فلا أنسى الماغوط الكاتب المسرحي المبدع، وفي كل يوم توجّه إليه من خلال الصحف او الشاشة الصغيرة مناشدة ملحة، او كلمة عتاب رقيقة من قِبَل كل احبائه على امتداد هذا الوطن العربي ليطل عليهم بعمل مسرحي جديد.
لابد لي أن أذكر شيئاً عن عزلة الماغوط، إنها على أية حال عزلة من نوع خاص جداً، لا يخرج الآن ذلك البوهيمي المتوحد من بيته، لكنه لا يوصد بابه ابداً على اصدقائه ومحبيه.. بشرط أن يكون هناك موعد.
اما عن صحته فهو والحمد لله بألف خير، لكنه مسكون بمرض واحد، إنه داء الوفاء والصدق والإخلاص، ربما أن الماغوط يؤمن بنسبية بعض المفاهيم، أما تلك الفضائل فعنده، إما تكون أو لا تكون.
* أديبة سورية
| | |
|
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى
chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى
admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved
|