الماغوط.. الشاعر بامتياز شوقي أبو شقرا
|
لا أستطيع أن أفصل محمد الماغوط وانطلاقته البارزة في الشعر العربي الحديث، وفي الشعر السوري خاصة، عن مجلة شعر في بيروت وكونها السباقة والمندفعة إلى مجد القصيدة الجديدة، وإلى قطاف الحصاد الكبير الذي زرعته بذاراً في الجفاف كما أنها ساهمت مساهمة كاملة ومنفردة في بث روح التمرد والبحث عن الأصالة الأكيدة التي يمتلئ بها انتاج شعراء هم قلة لكنهم أقحاح وساطعون.
هؤلاء الشعراء كانوا نفراً يوسف الخال وأدونيس وشوقي أبي شقرا وأنسي الحاج ونذير عظمة، وانضم إليهم الماغوط قادماً من سوريا بأفكاره الأخرى والذاتية والثورية، ومعه النص الشعري المعروف (حزن في ضوء القمر).
والصفات التي غلبت على محمد هي نفسها التي غلبت على رفاقه التي تنطبق على الجميع معاً، ومحمد فيما بعد توسع في رحلته، فلم يقتصر مقامه على بيروت وعلى مناخها الثقافي العارم، ولم يتقصر عطاؤه في نطاق العاصمة اللبنانية وحدها، وإنما ذهب كثيراً في معارجه وانتقل إلى المسرح وإلى الكتابة النقدية الصحافية واستغرق في تصوير عالمه العربي حتى التعرية ودل بقوة على الضعف وعلى التراجع وعلى معالم النهضة بالضرورة بين السطور.
وكذلك فعل رفاقه، إذ توسعوا مثله، ولا يمكنني إلا أن أمزج بينه وبين هؤلاء ثم إن ما كان إبداعاً ثميناً شمله والرفاق، في تلك الأيام من الخمسينات في أواخرها، ومن الستينات في مطالعها، والجميع متساوون في أنهم حملوا النغمة الفريدة إياها.
وتلك المسيرة تبدو في هذه الكلمات حيث يلتقي محمد وأصدقاؤه الحقيقيون، إذ قبل محمد بقليل وبعدئذ حاضراً في الصميم لنا
الصفاء. عهداً وكنا الكبار في الواقع وكنا معاً متواجدين وكنا المقامرة بذاتها الجلي وفعل الإقدام على المجهول والجرأة في القول وفي طلب الأبعاد.
وكنا في بيروت المزهرة آنذاك، الوجه الأنصع والإمكانات المشتاقة إلى الحفر وإنزال ما يجب أن ينزل في الإطار الصلب، وكنا القمح الممشوق بل الأمل المشتهى، وهكذا نملأ الوعاء وخزانة المؤونة وحنايا الكوارة في الحائط القائم بين غرفة وعلّية. إذ نحن أبناء الريف معظمنا وما كان غيرنا، من أي نوع، أحسن منا.
إذا لبسنا ثياب الشعر المنتفض والنفحات الثائرة، وعباءة الذهاب إلى الأمام وإلى جهة من الجهات، وكل الجهات وكان الدخان الأبيض، دخان النجاح والصواب فألاً يتصاعد من قاماتنا المثلى، من أجسادنا المكهربة، من أقلامنا المرهفة ونحن حزمة من المواهب من الموقدة الملتهبة وحيث الجمر لا يختبئ تحت الرماد، بل يلمع جهاراً، ونحن بلا شك مثل الحرارة والحر والحرية دائماً والأجرة الطويلة، وكذلك الأيام من ممتلكاتنا نحرثها بالأظافر والأقلام ونصنع الأبيات والمشاعر والصور الجديدة خارج القتام وخارج الظلمة.
إذن كنا الضوء في ذلك الخفوت
ونمارس ومحمد في الطليعة فن العيش إلى آخره، آخر العنقود، وكنا نكسر الجليد المتدلّي في مغاور الركود، وكانت القصيدة إذ نكتبها تأخذ ألقها وأوجها المرتاح سريرها المتين، وعلى أرض تحتاج إلى الري وإلى أمثالنا إلى مختارين يشحذون المخيلة وينثرون الحنطة الخصبة في الذي يجدعون ويهربون من العادي إلى مدار أعلى وألذ.
وما كان بعد حولنا ذلك الصدام بالصخب بالضوضاء وبالفوضى التي تظل القبلة، في كل حال، كما نشهد في زماننا هذا حيث، توافرت معطيات ومهن وبرامج تمزج الأخضر واليابس وتأكلها فلا يصمد من الإعصار إلا الذهب.
وكانت القصيدة مع محمد والعصبة المنتقاة تالياً هي المرصاد والمحطة بين أخواتها، والذواقون كثرة، وكان نهارنا أطول وليلنا يهيم بنا ونلعب بالأبجدية ونبسط الأشكال والمرح على الورق وعلى الطاولات. وكانت مجلة شعر حقاً شعاع بيروت وفخر النص النازل إلى دور من الإلهام يتخطى بقية الأدوار، وكانت القصيدة من صنع محمد وصنع القصبة حصاناً هائجاً من ثنايا الكلام غير المألوف من عليقة الفنون والأسرار.
ونعترف بأن المتاح لنا كان أفضل وأغنى من المتاح لغيرنا لأننا أدركنا أن الحياة في المتناول وأن الشجرة والمعرفة في المتناول، ورحنا نلملم الأشياء الجميلة فقط وما ينجم عن الخلق وكل المعلقات من الأغصان الثابتة والمتحركة.
ولا نزال نركض مثل محمد العزيز على الإسفلت وعلى التراب ونرسل صراخنا البكر، وفي مجال بكر.
والحيوية لا تخون أحداً من هؤلاء الكهول الطيبين والذين في كنانتهم فتوحات.
* شاعر لبناني عضو في جماعة الشعر التي انطلق منها محمد الماغوط
| | |
|
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى
chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى
admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved
|