محمد الماغوط..الصعلوك المتمرد محمد عبدالرزاق القشعمي
|
قبل خمسة عشر عاماً كنت في مسقط عاصمة سلطنة عمان في مهرجان الشعر والقصة لشباب دول مجلس التعاون الخليجي برفقة مجموعة من الأدباء الشباب أذكر منهم النابهين عبده خال وعبدالمحسن يوسف.. وكنا برفقة مجموعة من أدباء الشباب العماني.. وأذكر أن النادي الثقافي بمسقط قد استضاف محمد الماغوط قبل مهرجان الشباب بأيام وقد سمعت له مقابلة بالإذاعة العمانية وبقي في ذاكرتي من مقابلته انه عندما سئل هل تعرف احداً من أدباء عمان أجاب: إنني أعرف شخصاً يدعى (سيف الرحبى) وأضاف هل تعرفوه ومط مقطع (فوه) من الكلمة وكان وقتها سيف الرحبي رئيس تحرير مجلة نزوى منذ عشر سنوات يعيش في الخارج.
وقصة أخرى لي مع محمد الماغوط إذ حرصت على اقتناء احد كتبه وهو كتاب (سأخون وطني) لقد قرأت مقدمة زكريا تامر له فعرفت أن الأوطان نوعان وطن مزور وأوطان حقيقية الأوطان المزورة أوطان الطغاة والأوطان الحقيقية أوطان الناس الأحرار، أوطان الطغاة لا تمنح الناس سوى القهر والذل والفاقة ومدنها وقراها لها صفات القبور والسجون، ولذا فإن الولاء لأوطان الطغاة خيانة للإنسان، بينما عصيانها والتمرد عليها إخلاص للإنسانية وحقه في حياة آمنة..الخ.
وقال في ختام مقدمته: إن محمد الماغوط قد نجح في الجمع بين الليل والنهار والأمل واليأس بين مرارة الهزائم وغضب العاجز، وليقدم صورة لما يعانيه الإنسان العربي من بلاء من سياسييه ومثقفيه، وجنده وشرطته وأجهزة إعلامه.. الخ.
وقال: إن هذا الكتاب سأخون وطني شهادة فاجعة صادقة على مرحلة مظلمة من حياة العرب في العصر الحديث، وتصلح لأن ترفع إلى محكمة الأحفاد كوثيقة تدحض أي اتهام بالتقصير والاستكانة يوجه إلى الأجداد، فالعنق الأعزل لا يستطيع الانتصار على سكاكين المفترسين.. الخ.
هكذا قال زكريا تامر في مقدمة الكتاب.
وأصدقكم القول إن العنوان أعجبني أو استهواني فقررت اقتناءه وكان ذلك في بدء حضوري معارض الكتب
العربية قبل خمسة عشر عاماً. وكل مرة اشتري هذا الكتاب وأدسه بين الكتب يلفت نظر المفتش أو مندوب الإعلام بالمطارات فيصادره ،لاكثر من خمس مرات سواء أحضرته من دولة الإمارات أو من مصر أو سورياً. وأخيراً والحمد لله فقد اشتريته من معرض الكتاب بالرياض ومن مطبوعات دار المدى بدمشق.
وهذا الماغوط مثله مثل سعد الله ونوس وكثير من المبدعين الوطنيين المتشبثين بالأرض والمؤمنين بالمبادىء الوطنية الصادقة. سمعت أنه قبل سنتين وهو يرى التسابق للتصالح مع العدو الصهيوني، والهرولة لكسب السبق إنه قال في إحدى المناسبات: أرجوكم يا حكامنا الأشاوس أن تنتظروا قليلاً قبل أن توقعوا وثيقة الصلح مع العدو الذي رضعنا كرهه من أثداء أمهاتنا.. انتظروا حتى نموت لأننا لا نصدق أن هذا سيتم يوماً ما.
وأعمال الماغوط الشهيرة والتي كسب بسببها دريد لحام شهرة واسعة مثل (كاسك يا وطن) المسرحية التي تمتعنا بمشاهدتها أو المسلسل الجميل الذي أداه (دريد لحام) غوار الطوشة وغيرها الكثير أذكر منها مسرحيات ضيعة تشرين، غربة، شقائق النعمان، إضافة لكاسك يا وطن إضافة للمسرحية الطويلة (العصفور الأحدب) ومن الأفلام (الحدود، التقرير، المسافر) وروايته
الوحيدة التي يحكي فيها سيرته الذاتية (الأرجوحة) وديوان (الفرح ليس مهنتي).
وكتب سأخون وطني، غرفة بملايين الجدران، سياف الزهور، وأغلب هذه المسرحيات والأفلام كتبها في مقهى (أبو شفيق) بالربوة بدمشق.
وقال عنه خليل صويلح في كتاب (اغتصاب كان وأخواتها): .. إن الماغوط ابن الحياة التي لا سقف لها، لأنه ولد في العراء، وظل يحاول ستر عورته إلى آخر حروفه الهاربة من اقفاص اللغة، نحو الحرية وهي متلبسة بالجريمة الكاملة..
ولد الماغوط في 1934م في بلدة (السلمية) بالقرب من حمص في أقصى حالات الفقر وجاء إلى دمشق عام 1948م هارباً من بطش والده، حاملاً على ظهره أكبر حدبة بشرية من الأحزان والرفض، فتعرض للسجن والتعذيب والهروب والاختفاء.. وما زال إلى اليوم يتذكر بحنين تلك الغرف
الصغيرة الواطئة التي قطنها في (باب توما) و (أبو رمانة) و (عين الكرش).
ويقول عنه خليل صويلح أيضاً في الكتاب المشار إليه.. إذا رغب أحد ما في كتابة سيرة محمد الماغوط، فإنه سيجدها مبثوثة في كتاباته، خصوصاً في روايته الوحيدة (الأرجوحة) التي كتبها في العام 1974م فما أن تقرأ بضع سطور من هذه الرواية ستكتشف أن... التنبل هو محمد الماغوط نفسه وأن (غيمة) المرأة التي احبها بجنون هي (سنية صالح) شقيقة خالدة سعيد زوجة أدونيس التي اصبحت زوجته لاحقاً..
وقال: إنه حاول معه أن يكتب مذكراته أو يمليها كما وعده أكثر من مرة.. ولكن مزاجه الشخصي وتبرمه يحول دون ذلك.. وقال يوماً إنه سأله: وماذا ستكتب على شاهد قبرك؟ أجاب: لا شيء .. شخوا عليه!.
وقال: إن الماغوط لو ولد في عصر آخر، لمات من الجلد على يد أحد الخلفاء، أو بترات أصابعه، أو قطع لسانه، لأنه هجّاء من طراز خاص، لم تتوقف حنجرته عن الاحتجاج والسخط أبداً..
ولأنه لا يحمل من الشهادات سوى الابتدائية (السرتفيكا) فلم تنشر له الصحف قصائده..ولكنه بمجرد أن أضاف لاسمه كلمة (الدكتور) فقد نشرت له على الفور مجلة (الآداب) ببيروت قصيدة بعنوان (غادة يافا).
ويقول إن الكلام الذي كان يكتبه ويهربه مع ملابسه الداخلية من سجن المزة وهي مجرد خواطر سجين.
وما أن قرأها أدونيس الذي كان مسجوناً مثله حتى قال عنها إنها شعر.. وعندما جمعه بجماعة شعر يوسف الخال وأنسي الحاج، والرحابنة لم يقل لهم إن هذا من شعره بل قرأ عليهم القصيدة وتركهم يتساءلون من قائلها؟؟
منهم من قال إنه (بودلير؟.. رامبو) وبعد أن أعيتهم القصيدة وقائلها قال لهم أدونيس: هذا هو شاعر أمامكم وكان وقتها هارباً من سوريا للبنان أيام الوحدة المصرية السورية.
وعن خلافه فيما بعد مع جماعة شعر وافتراقه عنهم يقول: كان جماعة شعر يكتبون في المطلق، وأنا حاولت أن أسحبهم إلى الأرض بكل ما فيها من أرصفة وتشرد وحطام، وأرغمتهم أن يعودوا من الفضاء إلى الأرض لكنني بقيت طارئاً، مثل ضيف على طرف المائدة وافترقنا لأنني شاعر أزقة ولست شاعر قصور، قبل ذلك علمتهم التسكع في الطرقات وتحت المطر أنا فتحت ثغرة في جدار أصم.
وقال:.. قل لأحدهم ثلاث مرات (المتنبي).. يسقط مغمى عليه.. بينما قل له وعلى مسافة كيلو متر (جاك بريفير).. فينتصب ويقفز عدة أمتار عن الأرض كأنه شرب حليب السباع.. العلة ليست أبداً في التراث بقدر ما هي في النفوس.. وقال عن مفهومه للشعر: الشعر نوع من أنواع الحيوان البري. الوزن والقافية والتفعيلة تدجنه، وأنا رفضت تدجين الشعر، تركته كما هو حراً ولذلك يخافه البعض واعتقدنا أن (قصيدة النثر) هي أول بادرة حنان وتواضع في مضمار الشعر العربي الذي كان قائماً على القسوة والغطرسة اللفظية، كما أن هذه القصيدة مرنة، وتستوعب التجارب المعاصرة بكل غزارتها وتعقيداتها، كما أنها تضع الشاعر وجهاً لوجه أمام التجربة وتضطره إلى مواجهة الأشياء دون لف وراء البحور ، أو دوران على القوافي، ليس لدي خلق لأبحث عن قافية وبيت، ووقتها كنت مهموماً في البحث عن بيت أنام فيه بدلاً من تشردي على الأرصفة.
وقال في موضع آخر:.. بدأت وحيداً، وانتهيت وحيداً كتبت كإنسان جريح وليس كصاحب تيار أو مدرسة.
| | |
|
توجه جميع المراسلات التحريرية والصحفية الى
chief@al-jazirah.com عناية رئيس التحرير
توجه جميع المراسلات الفنية الى
admin@al-jazirah.com عناية مدير وحدة الانترنت
Copyright 2003, Al-Jazirah Corporation, All rights Reserved
|